أبعد من دافنشي 4: دين الإنسان ودين الهيكل

المجدليّة نموذجاً

الصراع بين المسيحية الأولى وإلى جانبها المذاهب الوثنيّة والباطنيّة والهرمسيّة وبين المسيحية الرسمية الأقرب إلى السلطة الرومانية كان ترجمة لصراع عميق الجذور في التاريخ البشري بين الفلسفة العقلانية التحررية التي ترفض السلطويّة والهيمنة وتؤمن بالإنسان كقيمة عليا، وبين الفلسفة الغيبية القائمة على الطاعة السياسية والروحية المطلقة وعلى تمجيد عجز الإنسان وتقزيم العقل والارتياب من الجسد والطبيعة.

download136

دين الهيكل... حين يحمل الإله سيفاً!

كانت الأنثى في التيار “الوثني – الباطني” تتمتّع بتبجيل كبير، كونها مركز الخصب والخلق ومَجْمَع القيم وتعبير عن الكون الأنثوي الذي يحضن الحياة كما تحضن الأنثى المولود في رحمها.

في خضمّ هذا السياق وُلدت قضيّة المجدليّة.  وتشير الوثائق والأناجيل المكتشفة حديثاً إلى أن المجدليّة كانت محلّ تبجيل من قبل معظم المسيحيين خلال العصور الأولى للدعوة، بشكل متناغم مع حالة تبجيل الأنثى المقدّسة لدى الوثنيين. ومن الحقائق التي يجهلها معظم المؤمنين المسيحيين اليوم هي

وجود إنجيل لمريم المجدليّة من ضمن الأناجيل العديدة التي عثر عليها في خمسينات القرن الماضي في مكتبة نجع حمادي في الصعيد المصري (وجدت بضعة صفحات سليمة منه فقط (لمن يريد الإطلاع عليه بالانكليزية انقر هنا)

وتأليه المجدليّة في تلك المرحلة ليس أمراً مستغرباً في منطقة كانت لا تزال في مرحلة عبادة الأنثى المقدّسة بأسماءها المختلفة: نين سين \ إنانا (بلاد ما بين النهرين)، عشتار \ عشتروت (الساحل الكنعاني)، إيزيس (مصر)، أفروديت \ فينوس (اليونان \ روما)…ألخ.

هي أنثى الخلق، أنثى البداية، أنثى الخصب والمحبّة والجمال والحكمة الأزلية Sophia.

كانت الإلهة الأنثى ذات مقام أرفع من الإله الذكر على اعتبار أن الأنثى تضع المواليد وهي بالتالي مركز الخلق والخصب ومصدر الحياة. ولم يتغيّر الوضع إلا في مرحلة تاريخية لاحقة أضحت فيها القوّة الجسديّة الحربيّة محور التاريخ، وحلّ عندها تبجيل قدرة الذكر على إخذ الحياة (القتل بحدّ السيف) مكان تبجيل قدرة الأنثى على إعطاءها. في الزمن الذي تلى ذلك، وُلد الإله الذي يحمل بروقاً ورعوداً ورماح، وانسحبت الإلهة المؤنّثة إلى زاوية ثانوية من الهيكل.

الصورة الحديثة للمسيحيّة تعكس بدورها هذه الصورة المتناقضة، فمقابل صورة الأنثى التي ترضع المولود الحديث بحنان (الصورة التقليدية لمريم)، هناك الرجل الميّت على صليب: هو تبجيل الموت مقابل تبجيل الحياة. والفارق هنا هو أن الدين الحديث يرتكز على تبجيل الموت: الرجل المدمّى هو ابن الإله، هو الربّ نفسه، هو المخلّص، أمّا الأنثى المعطاءة فهي بشر فانٍ من لحم ودمٍ مثلنا.

كان التوازن بين عبادة الأنثى وعبادة الذكر قديماً يشير إلى أسلوب حياة يرتكز على التوازن بين القوّة والحنان، التوازن بين أخلاق السيطرة وأخلاق العطف وبين تبجيل الحياة واحترام الموت والتضحية.

لكن في الزمن الذي بدأت فيه الامبراطورية الرومانية تحكم هيمنتها على المتوسّط، لم يعد هناك مكان للتوازن القديم. ففي امبراطورية تقوم بحدّ السيف ولا تستمرّ سوى به، لا مكان لقيم الحنان والعطف والحياة الحرّة، لا مكان للتوازن الذي مثّلته عشتار إلى جانب بعل هداد. بالنسبة لسلطات روما، يبدو أن المطلوب كان ثقافة تمجّد الإخضاع والخضوع وأخلاق تقوم على علاقة تبعيّة بين سيّد امبراطور وعبد خاضع للاحتلال.

مجمع نيقية في القرن الخامس ميلادي الذي تكلّمنا عنه في تدوينة سابقة (رابطها هنا)، كان بداية انتصار فكرة الحرب الرومانية والإخضاع الروماني على فكرة الحريّة الوثنية والسلام الباطني. كان بداية البطريركيّة الأبويّة. بداية استبدال منجل الحصاد والجميلات الراقصات في الهيكل بالفؤوس المدمّاة والجنود المحتفلين على الأشلاء.

في الامبراطورية التي جعلت المتوسّط حوض استحمام لقياصرتها، لا مكان سوى لسلطة مطلقة واحدة، لا مكان سوى لحاكم واحد، لعاصمة سياسيّة واحدة. لا مكان فيها إذاً سوى لآب واحد، لإله رهيب واحد!

هذا هو دين الهيكل.

2 comments

  1. عبير · نوفمبر 1, 2009

    روعة يا أدون 🙂
    جد بحبها لسلسلة أبعد من دافنشي .. كل مرة عم تطرح الفكرة من زاوية مختلفة وكل مرة هاي الفكرة عم بتصير أوضح وأصفى .. بحب اقرالك. كمّل …

  2. أدون · نوفمبر 1, 2009

    شكرّا بنّوت 🙂

    دايما بحب اعرف رأيك بهالكتابات خاصة، لان معظم المكتوب هون انتي بتعبّري عنه بطريقة أو بأخرى بالفوروم وبمدونتك وحتى بصورك.

    سلام عزيزتي

أضف تعليق