هل يساعدنا الفايسبوك حقاً على التواصل؟ (1\2)

...

* * *

(هذا المقال هو جزء من سلسلة: العيش كصورة، كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة – يمكن الضغط على هذا الرابط للعودة إلى الفهرس)

(يمكن تكبير الخطّ على الشاشة عبر الضغط على +CTRL)

* * *

لا تزال الدراسات حول تأثير الفايسبوك على علاقاتنا الاجتماعية قليلة، خاصة أن الشبكات الافتراضية هي ظاهرة حديثة العهد. لكن الدراسات القليلة التي أُجريت حتى الآن تشير إلى أن علاقة الشبكات الاجتماعيةّ بالحميميّة هي علاقة عكسيّة: كلّما زاد الاعتماد على الشبكات الاجتماعية كلّما خطت العلاقات الحميمة خطوة إلى الوراء.

بعض هذه الأبحاث تمت مناقشتها في كتاب البروفيسور شيري توركل في كتاب “وحدنا معاً: لماذا نتوقّع المزيد من التكنولوجيا والقليل من بعضنا البعض” (Alone Together). بعد الإطّلاع على العديد من الدراسات الميدانية، وجدت تاكل أن المراهقين اللذين يعتمدون على الفايسبوك لإنشاء علاقاتهم الاجتماعية الأساسية هم الأكثر توتراً ووحدة مقارنة مع الآخرين. المراهقين اللذين يعتمدون كثيراً على الفايسبوك غالباً ما يعلقون في علاقات سطحيّة مع عدد كبير من الأصدقاء الافتراضيين من دون أن يطوّروا علاقات حميمة حقيقيّة وجهاً لوجه. بالارتكاز على هذه الملاحظات خرجت البروفسورة بأطروحتها التي تقول أنه رغم وعود التكنولوجيا الكثيرة بتعزيز التواصل الاجتماعي، هي تجعلنا في الواقع أكثر وحدة وتتحوّل اليوم إلى عائق أمام الحميميّة الحقيقية في العلاقات الإنسانية. تخلص توركل إلى القول أنه

“قد يكون لدينا الآن خيار العمل والتواصل من أي مكان، لكننا أيضاً معرّضون لأن نكون وحيدين في كل مكان. في انعطاف مفاجىء، التواصل الالكتروني الدائم قاد إلى نوع جديد من الوحدة. نحن نتطلّع إلى التكنولوجيا لملأ الفراغ، لكن كلّما تقدّمت التكنولوجيا، كلما تراجعت حياتنا العاطفية والاجتماعية”.

الخلاصات التي توصّلت إليها تاكل ليست مفاجأة، فالفايسبوك يشجّع على إقامة علاقات إنسانية سطحيّة لا عمق فيها، تبدأ بكبسة زرّ وتنتهي بكبسة زرّ. بالنسبة للمراهقين والشباب اللذين بدأوا حياتهم الاجتماعية على الفايسبوك ولم يختبروا العالم والصداقات الحميمة قبل وجود الانترنت، الشبكات الاجتماعية هي تهديد حقيقي لقدرتهم على بناء صداقات حقيقيّة على المدى البعيد. معظم المستخدمين البالغين للفايسبوك يعلمون أن غالبية الأسماء على لائحة أصدقائهم هم مجرّد “معارف”، لكن الأطفال والمراهقين لا يمتلكون أحياناً هذه القدرة على التمييز ويميلون إلى الاعتقاد بأن الصداقة تقوم على تبادل اللايكات على فايسبوك وأن “الصديق” هو الشخص الغريب الذي نتحدّث معه أونلاين.

حتى بالنسبة للبالغين، العلاقة الجماهيرية التي يشجّع الفايسبوك عليها لا تكترث بإقامة صلة إنسانية مع الآخرين بل تشجّع فقط على استعراض الذات على الآخرين. وهذا هو الهدف والمعنى من الفايسبوك: استعراض الذات، لا بناء الصداقات، أو على الأقل، هذه هي نتيجته على أرض الواقع. في العمق، الفايسبوك لا يتمحور حول الآخرين، يتمحور حول ذاتنا، حولنا نحن، يشجّعنا على أن نعتقد أننا محور التركيز والاهتمام. وهذا بدوره يشجّع على الغرق في حبّ الذات وعدم الاكتراث للآخرين وهذه ظواهر لا تعزّز القدرة على تطوير الصداقات.

يقول أحد الصحافيين الأجانب، شاين هيبز عن هذه المسألة جملة ممتازة:

“الفايسبوك هو وسيلة تقوم على تركيز الجزء الأكبر من انتباهنا على أنفسنا فيما تظهر بأنها تركّز الانتباه على علاقتنا مع الآخرين. إنه مرآة تتنكّر على أنها نافذة”.

لذلك يشجّعنا الفايسبوك على التواصل الذي يعزّز، لا علاقتنا مع الآخرين، بل تقديرنا لأنفسنا، ولو كان ذلك يعني على أرض الواقع تشجيع التواصل الخالي من المشاعر الإنسانية. ما اتحدّث عنه هنا هو أن الفايسبوك يشجّعنا باستمرار على أن يكون لدينا “أصدقاء” على صفحتنا لا نعرفهم شخصياً ولم نتبادل معهم أي رسالة أو كلام أو عاطفة أو فكرة؛ مع الوقت يتحوّلون إلى مجرّد رقم على لائحتنا، ونحن بدورنا نكون مجرّد رقم على لائحتهم، لكن لا أحد يعترض والجميع يستمرّ في المسرحيّة كأن العلاقات الإنسانية مجرّد علاقة بين صورة الكترونية وأخرى. وفي معظم الأحوال، هذه الصور هي مجرّد أقنعة نرتديها ولا تعبّر عنّا حقاً كأشخاص.

العلاقة الإنسانية على الفايسبوك تتحوّل إلى مجرّد صورة وتعليق وLike وتبادل بارد للتعابير الالكترونية، والناس تتحوّل إلى مجرّد صورة ورقم الكتروني آخر على لائحتنا. مع الوقت، الاتصال الهاتفي مع الأصدقاء يُستبدل بكتابة جملة على الحائط، واللقاء يُستبدل برسالة خاصة على الموقع. مع الوقت أيضاً، نخسر حرارة ما في قلبنا من دون أن نعرف لماذا وكيف. الإموتيكون emoticons (أيقونات تعابير الوجه) تستبدل الإموشن emotion (العاطفة) وتحرم عضلات وجهنا من التعابير… لكن هل نعلم أننا كلما استبدلنا ضحكة برمز الكتروني، وكلما استبدلنا حزن برمز وغمرة برمز وقبلة برمز، نقتل القليل من ضحكتنا وحزننا وعاطفتنا وقبلتنا؟ هل نعلم أنه كلما أرسلنا ضحكة على الكيبورد بدل أن نضحكها حقاً، يموت جزء صغير من وجهنا وينسى كيف يفرح ويضحك؛ وكلّما أرسلنا قبلة على الكيبورد، تموت عضلة صغيرة في قلبنا وتنسى شفاهنا قليلاً كيف تقبّل حقاً؟

_____________

الجزء الثاني من هذا المقال ننشره على مدوّنة نينار غداً الثلاثاء.

_____________

6 comments

  1. Hanibaael · فيفري 20, 2012

    كل ما التكنولوجيا اخدت حيّزها من حياتنا اليوميّة، كل ما اختفت اجزاء من انسانيتنا..
    كل ما نستبدل التكنولوجيا بحياتنا الواقعيّة، كل ما منتحوّل لمجرّد مكنات باردة!

  2. عبير · فيفري 20, 2012

    مقالة ممتازة طنطون.
    استمتعت جدا بقراءتها.
    ذكّرتني بصورة عمرها أكتر من سنتين بمدوّنتي، سمّيتها “أصابع من هذا الزمان”، وصوّرت فيها الكيبورد تبعي.
    كتبت تحتها: “وبها نكتب ونرسم ونجعل العالم أصغر .. والإنسان أصغر”.
    فعلا .. التكنولوجيا عم بتخلّي الإنسان يتقلّص وينكمش من جوّا …

  3. التنبيهات: العيش كصورة: كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة « نينار
  4. التنبيهات: هل يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة؟ « نينار
  5. التنبيهات: المصحّ الكبير: هل يعزز الفايسبوك الإدمان، نقص الانتباه وخزعبلات نفسيّة أخرى؟ (12) « نينار
  6. (J)--(Khadija Saleh) (@JijiPHD) · نوفمبر 28, 2012

    اعزائي فى هذه الجزئيه اتفق مع المقال على خوفى بل ورعبى على الجيل الجديد من ان تبتلعه الرموز الالكترونيه وينسى التفاعل البشرى—-واليكم ما قمت به لكى اخفف على الاقل من ذلك:-
    جمعت عدد من المراهقين فى العائله وعقدت معهم اتفاقيه نصها كالتالى:-
    استخدموا كما تشاءون الرسائل النصيه او مواقع التواصل الالكترونيه ولكن بشرط واحد:-
    عدم استخدامها ابدا عندما تتواجدون معا او عندما تتواجدون فى مكان يتواجد فيه بشر تعرفونهم.
    قلت لهم تحاوروا -العبوا مع بعضكم-تجادلوا مع بعض بطريقة الحوار البشرى وليس من خلال حوار الالات الصامته.
    جزئيا نجحت وان لم يكن كليا على الاقل عندما يكونون معا اطلب منهم وضع اجهزتهم بعيد وعدم استخدامهم بل احيانا العب معهم فعليا لكى يبدوا اللعب ثم انسحب لاتركهم يلعبوا مع بعضهم البعض وذلك طبعا بعد ان يندمجوا فى اللعب.
    تحياتى
    (J)

أضف تعليق