وهم المسافة: الوهم الأكبر الذي يحكم العالم العربي

...

*

طوني صغبيني

*

رغم أننا نتحدّث عن أن العالم أصبح قرية كونية منذ عقدين من الزمن على الأقل، إلا أن الوهم حول المسافات في القرن الحادي والعشرين لا يزال يحكم صناعة القرار السياسي بقوّة، وخصوصاً في العالم العربي.

لا نتحدّث هنا عن المسافات الجغرافية بل المسافة الاقتصادية والسياسيّة المعقّدة التي تفصل عادة بين الاستقرار والخراب لبلد ما وبين المستقبل المشرق والعصور المظلمة. لعلّ الانتفاضات العربية في العام 2011 وما تلاها هي خير معبّر عن سوء تقدير الأنظمة العربية لمسافات عديدة، منها المسافة التي تفصلها عن شعوبها وتلك التي تفصلها عن نهاية صلاحيتها.

الأنظمة العربية بنت أوهامها بنفسها: استمرّت لعقود تنظر في مرآة صنعتها هي، مؤلّفة من الوسائل الإعلامية وأجهزة المخابرات والنوّاب المعيّنين تعييناً، والتي ردّدت جميعها نفس الرسالة حتى بات النظام يصدّق كذبته، ورسالتها كانت: الأمور بخير، النظام مستقر، والأعمال يمكنها أن تستمرّ كالمعتاد إلى ما لا نهاية.

تكاتفت الأنظمة بكتم صوت أي اعتراضات تنشأ هنا وهناك وقلّلت من تقديرها، وعادت بعد كلّ حادثة تكرّر نفس الجملة أمام المرآة: “الأمور بخير”، فيما كان كل شيء يغلي وينهار تحت السطح. Read More

المشرق بعد الطوفان: 10 حقائق يجب الاعتراف بها من أجل رؤيا سياسية سليمة

ماذا نفعل في حفلة جنون؟

ماذا نفعل في حفلة جنون؟

طوني صغبيني

*

يعيش المشرق – وكلّ العالم العربي – حفلة جنون ودماء لم نشاهدها من قبل في تاريخنا. في ظلّ هذا الجنون، تعيش الأوساط البديلة – من علمانيين ويساريين وأنركيين ونسويين وناشطين مدنيين واجتماعيين – حالة من التشوّش والضياع، رغم أن المرحلة تستوجب أقصى درجات الوضوح والجدّية. حالة التشوّش تبقى بطبيعة الحال أفضل من الاصطفاف الخجول أو الفخور إلى جانب الطغاة، جزمات العسكر، أو عمائم الإسلاميين، وهو مطبّ وقع فيه عدد كبير ممن ذكرناهم آنفاً.

حالة التشوّش والضياع في أوساط الناشطين المستقلّين واضحة، وخصوصاً في المشرق ومصر حيث تختلط الذرائع الدينية والمشاعر الطائفية بالشعارات السياسيّة بالوقائع الطبقية والأبعاد الدولية، لتغذّي أزمة لا يعرف أحد أين تبدأ وأين تنتهي.

لذلك، وبهدف تحقيق القليل من الوضوح – نشارك بعض ما توصّلنا إليه من خلاصات، لعلّها تساعد من يقرأ على الخروج باستنتاجاته الخاصّة.

 *

1) الجذور الحقيقيّة للأزمة

فهم جذور الأزمة ضروري لكي نفهم كيف ستتطوّر في المستقبل وما هي الحلول المستحيلة وتلك الممكنة. البعض يلجأ إلى تحليل الأحداث، القوى السياسيّة، أو الأجندات الدولية التي أدّت إلى اندلاع الربيع العربي والأزمات التي تلته، إلا أن جذور الأزمة هي في الواقع في مكان آخر.

جذور الأزمة تعود بكل بساطة إلى الانهيار الحضاري: الرأسمالية الصناعية تنهار ببطء على وقع معضلة الطاقة التي تغذّيها ومجموعة أخرى من العوامل، وهذا يؤدي إلى تآكل مستويات المعيشة، ازدياد عدد المهمّشين، وانهيار الإجماع السياسي الذي كان يمكن من خلاله لدكتاتور أن يحكم من دون تحدٍّ (اقرأ كيف ساهم ذلك في خلق ظروف الثورة المصرية).

التوقيت له أسباب سياسيّة طبعاً، لكن الجذور اقتصادية وبنيوية، وهذه الظروف لا يمكن تغييرها بتغيير رئيس أو حكومة. نحن نعيش آخر أيام روما، لكن روما هذه المرّة ليست امبراطورية، بل هي كل الحضارة الحديثة. لقد كتبنا حول هذا الموضوع منذ أعوام، لكننا للأسف لم نستطع تخيّل أن آخر أيّام روما ستكون قبيحة لهذه الدرجة.

 *

2) هذا اسمه انهيار

الأزمة إذاً ليست ببساطة أزمة مواجهة بين تيار سياسي وآخر، بل هي Read More

التكتيكات العقيمة للنشاط السياسي: هل نريد القيام بضجّة أم تحقيق تغيير حقيقي؟

هذا المقال هو جزء من كتاب: “لعنة الألفيّة: لماذا يفشل النشاط التغييري”. يمكن قراءة السلسلة الكاملة على هذا الرابط: لعنة الألفية

* * *

من الاحتجاجات في مصر

من الاحتجاجات في مصر

حين تلاشت حركة احتلوا وول ستريت، معظم الحركات والناشطين والمعلّقين الألفيين أعلنوا أنها في الواقع حقّقت أمراً مهماً جداً: إدخال قضيّة العدالة الاجتماعيّة إلى قلب النقاش العام. هذا الميل للقول أن الانجاز الاكبر لحركة احتجاج هو وضع قضية ما تحت الضوء العام يُستعمل في كل مكان لتبرير فشل حركات الاحتجاج. المشكلة الحقيقيّة هي أن الحركات والناشطين الألفيين لا يصدّقون أن هكذا هدف متواضع هو انجاز عظيم فحسب، بل يعتقدون أن الاحتجاج نفسه هو مجرّد طريقة لإيصال الصوت والهواجس، لا لتحقيق نتائج سياسيّة استراتيجيّة.

الصحافي الانكليزي أديتيا شاكرابروتي يعطي مثالاً جيداً عن هذه الذهنية السائدة ويذهب خطوة أبعد إلى اعتبار أن مجرّد وجود حركة احتلّوا وول ستريت هو انجاز. في مقالة رأي بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للحركة، عبّر شاكرابرواتي عن دهشته عن مقارنة الحركة المتلاشية بحزب الشاي (اليميني الأميركي) القوي:

“على الجهة الأولى لدينا مجموعة من العدميين اليمينيين الذين يقبضون أجور من المليونيرات الأخوان كوش والذين يمتلكون محطتهم التلفزيونية الخاصة فوكس نيوز؛ وعلى الجهة الثانية لديك مجموعة من الطلاب المتواضعين، العاطلون عن العمل، وبضعة شبان مع مدوّناتهم الخاصة. بالنظر إلى أحجامهم المختلفة، من الملفت أن حركة احتلوا استطاعت الوصول إلى ما وصلت إليه، محوّلة شعار ‘نحن الـ 99 %’ إلى أحد أكثر الشعارات المدوّية في تاريخ الحملات السياسيّة”[1].

شاكرابروتي لا يحدّد كيف أن شعار الـ “99 %” هو أكثر شعار مدوّي في التاريخ لكنه يتابع ويعدّد انجازات أخرى للحركة وهي “إطلاق النقاش” لبعض الناس: “صرف حركة احتلوا بهذه الطريقة يتجاهل ما حققته الحركة حتى الآن. حديقة زوكوتي (في نيو يورك) سمحت لمئات الغرباء بتطوير حجج سياسيّة وروابط قويّة على السواء”.

أعظم انجاز لحركة وعدت بتغير المشهد السياسي الأميركي برمّته هو إذاً مساعدة بضعة مئات من الناس على تطوير حجج سياسيّة جدية؟ Read More

غرافيتي الانتفاضات: توثيق لغة الشارع في الثورات العربيّة

غلاف كتاب غرافيتي الانتفاضات للصديق هاني نعيم. الغلاف من تصميم الصديق حرمون حميّة.

* * *

“الغرافيتي السياسي لا يتقيّد بالقاموس الرسمي المستخدم في الحياة السياسية ووسائل الاعلام التقليدية. لا رقابة على موقفه، وتعبيره. لا مصلحة سياسيّة تردعه، ولا تمويل سياسي يؤثّر فيه. لا نقاط يمشي بينها كي لا يزعج الحلفاء أو المموّلين، ولا سقف يحدد خطابه، نبرته، وحدّته. هو الموقف السياسي بلا مستحضرات التجميل والزوايا المدوّرة. هو الموقف بشكله الحادّ، القويّ، المباشر”.

هاني نعيم، اقتباس من كتاب “غرافتي الانتفاضات: رحلة إلى كواليس لغة الشارع”، صادر عن الدار العربيّة للعلوم، 2012.

*

طوني صغبيني

*

غرافيتي الانتفاضات كتاب صدر حديثاً للزميل والصديق هاني نعيم عن الدار العربية للعلوم، ويأخذنا إلى كواليس لغة الشارع الذي انتفض على حكّامه في العامين الأخيرين. الكتاب ينقلنا إلى المكان الذي تحصل فيه الأحداث، إلى الجدران والأزقة والأدراج والمنازل التي قاومت الطغاة. هو ينقل صوت الناس كما هو، بشكله الخام كغرافيتي على الجدار – من دون تجميل، وبعيداً عن الشعارات السياسيّة وعناوين النشرات الإخبارية التي تحاول جاهدة مصادرة الصوت والصورة.

كتاب غرافيتي الانتفاضات هو ثمرة سنوات عدّة من المتابعة والتوثيق للغرافيتي قام بها المؤلف عبر مدوّنته الخاصة “هنيبعل يتسكّع في الأرجاء“.

يبدأ الكتاب بتحليل Read More

ربيع عربي أم خريف إسلامي؟

* * *

ربيع عربي أم خريف إسلامي؟

نحو أفق أبعد من الثورات العربية

*

طوني صغبيني

*

ليلة سقوط زين العابدين بن علي والبداية الرسمية لما بات يُعرف اليوم بالربيع العربي صادفت أن تكون نفس ليلة توقيع كتابي الأوّل الأزمة الأخيرة في بيروت؛ خلال التوقيع سادت على الأجواء النقاشات حول مستقبل الأنظمة العربية بين وجوه الناشطين المبتسمين، فيما تراجع موضوع الكتاب بخجل إلى الخلفيّة.

الصدفة هذه كانت بالنسبة لي مليئة بالمعاني، الكتاب الذي نُسي موضوعه في تلك الليلة يتناول أهم القضايا التي يواجهها جيلنا، قضية مستقبل حضارتنا وسقوطها الحتمي والبطيء الذي يقف خلف معظم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح العالم اليوم. طغى الحدث على المشهد وغابت الصلة التي تربط بينه وبين جذور الأزمة من أعين غالبية الحضور. رغم أن معظم اللذين تواجدوا في المكان وقتها كانوا من خيرة الناشطين السياسيين والمدنيين والبيئيين في بيروت وأوسعهم ثقافة، إلا أنه كان من الصعب عليهم أن ينظروا أبعد من الحدث الآني.

قصر النظر هذا طبع مرحلة الانتفاضات العربية بقوّة وهو أيضاً لسان حال معظم القوى السياسية في العالم ووسائل الإعلام التي تتخبّط لتفهم حقيقة ما يحدث والتي تغرق بتحليل الأحداث الآنية والتلّهي بها بدل النظر إلى جذر الأمور. هذا ما نريد أن نقوم به هنا، الحديث عن الجذور.

*

رفضاً لتطويب الثورات

من مظاهر الغرق في الأحداث الآنية هو التمجيد الدرامي للثورات والتعامل مع القوى الإسلامية كأنها مفاجأة لم يعلم أحد بوجودها قبلاً.

كل ثورة هي طبعاً عمل شجاع وهي نتيجة عمليّة طويلة من التراكم، كما أنها تؤدّي إلى تغيّرات دراماتيكية في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلد ما. الثورات ليس أمراً يمككنا تجاهله، لكن ما نتجنّب ذكره عادة عند الحديث عنها هو أنها هي في معظم الأحيان نتيجة فشل طويل الأمد في إحداث تغيير، وليسي حدثاً قائماً على النجاح. هذا الفشل هو ما يؤدّي إلى انفجار على شكل ثورة، والانفجار هو أمر لا يمكن التحكّم به أو التنبؤ بنتائجه. لذلك ما يحصل عادة هو Read More