ماليزيا: نزاع يُحيي التحديّات الانفصاليّة

طوني صغبيني

أصابت توقّعات الزعيم الماليزي المعارض، أنور ابراهيم، أن «حكومة عبد الله بدوي لن تصمد عاماً واحداً»، بعد الضربة التي تلقتها من داخل الحزب الحاكم، على يد رئيس الحكومة السابق مهاتير محمد، في بلد يشكّل مزيج الصراعات السلطوية والإثنية (أقلية هندية ومالاويين وماليزيين من أصول صينية) ملامح الحياة السياسية فيه.

مهاتير محمّد (إلى اليمين) وعبد الله بدوي (أ ف ب)

منذ الوهلة الأولى للأزمة، بدا أن مهاتير، الذي حكم ماليزيا لأكثر من عقدين من الزمن بقبضة حديدية، لا يزال يتصرف في حزبه وفي الدولة، على أنه الحاكم المطلق. وفيما كانت الأنظار تتجه إلى تحركات المعارضة بقيادة إبراهيم، بعد نجاحها في إنهاء سيطرة «المنظمة الوطنية المتحدة للملايو» (أنمو) على البرلمان في آذار الماضي، أتت الضربة الأقسى من الجبهة الداخلية: مهاتير نفسه.
استقالة مهاتير من الحزب ودعوته نواب الحزب إلى الالتحاق به من أجل إسقاط حكومة بدوي، تأتي بعد سياق طويل من الخلافات مع رئيس الوزراء، الذي اختاره مهاتير نفسه لخلافته، وبعد «التسونامي» الذي ضرب الحياة السياسية الماليزية «وغيّرها إلى الأبد» في الانتخابات الأخيرة.
الأزمة المتصاعدة في الاقتصاد العالمي، ولا سيما ارتفاع أسعار النفط والغذاء (وخاصة الأرزّ الذي يمثّل العمود الفقري للأمن الغذائي الماليزي)، جعلت عمل الحكومة الماليزية في السنتين الأخيرتين، عبارة عن ورشة إصلاحية مستمرة، تطول لائحة المستفيدين منها من جهة، والمتذمرين المتشائمين من جهة أخرى.
عندما تعاظم حجم الاستياء العام الماضي، واجهه بدوي بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، وبوعود بإنهاء التمييز الإثني ومواجهة الفساد وتحسين الوضع الاقتصادي وإرخاء القبضة على الحريات العامة في البلاد، فكان الجواب هزيمة انتخابية ساحقة لحزبه، أبقته رئيساً لحكومة لا تملك سوى خيارين: الشروع بالإصلاحات الحقيقية أو التنحي.
افتتح بدوي الورشة على أكثر من جبهة: أعلن عزمه على إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، ولوّح بإنشاء جهاز لمحاكمة تجاوزات الأجهزة الأمنية، وعيّن في مجلس القضاء الأعلى قاضياً إصلاحياً بهدف إعادة النظر في الجسم القضائي، مؤكداً أن الدولة ستعوّض على القضاة المقالين سابقاً من مهاتير، وخفّف القيود على وسائل الإعلام، سامحاً للمرة الأولى للمعارضة والأقليات الهندية بإصدار صحفها الخاصة.
لكن محاولات بدوي، انطلقت في ظلّ معارضة ضمنية واسعة داخل إدارات الدولة ومجالس المحافظات، التي أغضبها تجميد بعض المشاريع الكبرى التي تدرّ على أنصارهم الملايين، فتعثرت الإصلاحات منذ اللحظة الأولى، مسبّبة غضب الأوساط الحكومية والحزب الحاكم وسخط المعارضة على السواء.
غضب مهاتير المزدوج من نموّ نفوذ المعارضة، وتآكل نفوذه التدريجي في ظلّ إصلاحات بدوي، وانعدام ثقة المعارضة بأي خطوة تقوم بها حكومة من حزب «انمو»، ليس كافياً حتى الآن لإطلاق رصاصة الرحمة على حكومة بدوي.
توزيع القوى على الساحة الماليزية يرجّح دخول البلاد في أزمة ستاتيكو مخرجها الدستوري والسياسي غير معروف حتى الآن. فمن سخرية الوقائع، أن بدوي محصّن في موقعه الوزاري، عبر قوانين وآليات دستورية معقدة رسّخها مهاتير نفسه بهدف البقاء في منصبه سابقاً. ويساعد بدوي أيضاً رفض النواب المؤيدين سابقاً لمهاتير، الانضمام إلى صفوف المستقيلين، خوفاً من تفكّك الحزب أمام معارضة مندفعة، فضلاً عن أن الائتلاف الحاكم لا يملك في جميع الأحوال، أكثرية الثلثين داخل البرلمان لتعديل الدستور وإسقاط بدوي عبر حذف النصوص التي تؤمن استمراريته.
أما المعارضة، فهي لا تملك حتى الآن الأكثرية النيابية الكافية لتغيير الحكومة، وإن لوّحت بنواب منشقّين عن «أنمو» يكملون العدد المطلوب لإسقاطها. كما أن مكوناتها لا تزال مترددة أمام رهبة تسلم الحكم في ظلّ أزمة اقتصادية عالمية مستعصية، تبدو أقوى حكومات العالم أمامها بمظهر العاجز. كما أن مكوّنات المعارضة، قد لا تكون متجانسة كفاية لخلق ائتلاف حاكم، حيث تتبادل أحزابها الحذر، بين حزب إبراهيم «عدالة الشعب» المتحمس بجدية للإصلاحات الشاملة، و«حزب الحركة الديموقراطية» ذي القاعدة الشعبية الصينية الذي يركز على حقوق إثنيته، و«الحزب الإسلامي» الذي أعلن سابقاً أن هدفه دولة الشريعة.
الأزمة السياسية في قمة الهرم السياسي قد تكون مظهراً صحياً للحياة السياسية في دولة لم تشهد أي انتصار للمعارضة طوال عقود، لكن نتائجها في المقاطعات توحي بمحصلة نهائية بعيدة عن ترسيخ الديموقراطيّة والحفاظ على وحدة الدولة.
فالحكومة المركزية، في مواجهة الإجراءات الاقتصادية للمعارضة في المقاطعات الفدرالية التي تسيطر عليها، ردّت بمنع المقاطعات من بعض المشاريع الإنمائية وخفض الميزانية وتضييق قوانين الاستثمارات، بما يعيد إلى الأذهان، في ظلّ تاريخ التوتر الإثني في ماليزيا، مشاهد بدايات النزاعات الانفصالية في الجزر الآسيوية.
فهل تنجح ماليزيا بعد الصدمة السياسية الأولى بترسيخ نظامها السياسي وتطويره، أو تغرق في فخّ الانتقال الفجائي من الاستبداد إلى «الدولة الفاشلة»؟


الأخبار عدد الجمعة ٢٣ أيار ٢٠٠٨