انتفاضة أوكتوبر 2019 في لبنان: بعض الأفكار النقدية

*

طوني صغبيني

*

تشاء الصدف هذه المرّة أن أكون في بيروت عشية اندلاع انتفاضة 17 أوكتوبر 2019 بوجه السلطة الحاكمة، ما أتاح لي للمرة الأولى منذ فترة طويلة بالمشاركة بالكامل في مشهد أؤمن به من دون تحفّظات. بعد 13 يوم من الاحتجاجات المدوّية والتي شهدت مظاهر نراها للمرة الأولى في تاريخ لبنان، نجحت الثورة بمطلب أساسي لها هو إسقاط الحكومة.

مستقبل الانتفاضة والمشهد السياسي عامة يبدو غامضاً في هذه اللحظة وبعد تحقّق المطلب الأوّل أرى انه من المناسب أن أشارك بعض الأفكار حول نقاشات أساسية شهدتها الانتفاضة، بعدما امتنعت عن إبداء رأي بها في خضمّ الأحداث، لأن الوقت كان وقت فعل لا وقت كلام، ولأنه في ظلّ الهجوم الشرس للسلطة علينا، لم يكن الوقت مناسباً وقتها لطرح نقدي. في ما يلي بعض الأشياء التي أشعر أنها تستحقّ النقاش حالياً.

 *

مسألة توحيد المطالب

برزت مسألة المطالب منذ اللحظة الأولى حيث ادّعت السلطة أنه لم يكن هنالك مطلب واضح للتحرّكات. الحقيقة هي أنه كان هنالك مطالب واضحة منذ البداية تمثّلت بإسقاط الحكومة أولاً وإزاحة الطبقة السياسية القديمة ثانياً، لكن هنالك من دون شكّ لائحة طويلة جداً من المطالب لمختلف الفئات وبعضها متناقض.

الفئات المتضرّرة من النظام السياسي-الاقتصادي الفاسد في لبنان هي كثيرة تشمل كافة فئات المجتمع تقريباً، من النساء إلى العمّال إلى الطلّاب إلى العاطلين عن العمل إلى متقاعدي الجيش إلى معلّمي المدارس إلى أصحاب الأعمال، ومن الطبيعي أن يكون لهذه الفئات مطالب متنوّعة ومتناقضة كما أنه من الطبيعي لقوى مدنيّة وسياسية مختلفة أن تطرح حلولاً متنوعة ومختلفة للأزمة. كل ذلك يعني أنه حين يتعلّق الأمر بأبعد من إسقاط الحكومة ورفض الطبقة السياسية السائدة، ستشكّل لائحة المطالب معضلة لن يكون بالامكان تجاوزها بسهولة.

المعضلة هي هذه: كل حركة احتجاج تخسر الكثير من تأثيرها وقدرتها على إحداث تغيير إن لم يكن لديها مطلب واضح وموحد، ولا اعتقد أن الانتفاضة الحالية تتوحد على أبعد من إقالة الحكومة السابقة، إنشاء حكومة حيادية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة. قد يقول أحدهم أنه هنالك مطلب موحد بإسقاط النظام أو بإلغاء الطائفية السياسية أو بهذا الأمر وذاك، لكن شعار “إسقاط النظام” يعني أمور مختلفة جداً بالنسبة لمختلف مكوّنات الانتفاضة، وإلغاء الطائفية السياسية هو بالتأكيد ليس شعاراً موحداً حيث لم نسمعه سوى في بيروت تقريباً.

لا اعتقد أن مسألة المطالب هي مشكلة أو نقطة ضعف لأننا في نهاية المطاف أمام انتفاضة شعبية عفوية ستحقّق الهدف منها بشكل كامل إن أجبرنا السلطة على انتخابات نيابية مبكرة، ولا يجب أن نتوقّع منها أن تخرج ببرنامج ثوري كامل موحّد من نقاط مفصّلة تغطّي الاقتصاد والمعيشة والسياسة والقوانين والكهرباء والنظام المالي. هنالك من دون شكّ مجموعات ومبادرات تطرح أجوبة كاملة على كلّ هذه الأمور، لكنّها لا تتحدّث باسم كل الفئات الشعبية التي خرجت إلى الشوارع.

*

الثورة الراقصة

اتّسمت الثورة في لبنان بمظاهر الفرح، من الرقص إلى الأغاني إلى الدبكة إلى الضحك والنكات، وكل هذه الامور أثارت حفيظة خصوم الثورة كما اعترضت عليها بعض الفئات المحافظة من صفوف الانتفاضة نفسها. لعلّ أهم ما قامت به الثورة هو الانتصار الظاهري لثقافة الفرح والحياة والانفتاح على ثقافة الانغلاق والسوداوية والأصولية الدينية.

في بعض الأحيان في الشارع، بدت الموسيقى كأنها أفضل وسيلة عمليّة لإبعاد الأصوليين الدينيين عن الصفوف. قبل أن يقول أحدهم أن الثورة يجب أن تحوي الجميع أقول لهم لا: الثورة يجب أن تضع الأصولية الدينية ضمن خصومها لا أن تحاول أن تتكيّف معها في صفوفها. نعلم جيداً ما الذي يحصل للثورات حين تضمّ الظلاميين تحت جناحها ولا يجب على التغييريين أن يرتكبوا الخطأ نفسه مرّتان. يكفي تكيفاً مع الظلاميين والإسلام السياسي، واعتقد أن كل انتفاضة وثورة في العالم العربي يجب أن تكون من الآن وصاعداً موسيقية وراقصة لكي تغربل الظلاميين من صفوفها بطريقة سهلة.

أما اليساريين الذين ينزعجون من مظاهر الفرح في الثورة ويعتقدوا أنها يجب أن تكون دائماً وجوه مجهّمة وأغاني الشيخ إمام وقبضات مرفوعة، فالأفضل لهم أن يخترعوا آلة عودة بالزمن ويذهبوا إلى روسيا في العام 1917 ليمارسوا صراطهم الثوري المستقيم هناك. هنالك وقت للأغاني وهنالك وقت للمواجهات، واعتقد أن المنتفضين كانوا يعلمون ذلك جيداً من دون أن يتفلسف عليهم أحد بذلك.

*

*

*

“هذه الثورة ليست سياسية”

لعلّ أكثر التصريحات المضحكة هي حين سمعت أحدهم يقول أن هذه الثورة ليست سياسيّة. أفهم المواطن اللبناني حين يقول ذلك، يقصد أنها ليست حزبيّة أو تابعة لإحدى القوى السياسية السائدة. الحقيقة هي أن كل ثورة وكل احتجاج هو فعل سياسي أولاً وأخيراً، لأنه يسعى لإحداث تغيير في الواقع السياسي.

المعضلة ليست هنا، المعضلة هي في بعض الشخصيات والمجموعات الناشطة التي يُفترض أنها تعلم ما تتحدث عنه، والتي خرجت لتقول أن هذه الانتفاضة لا تريد التعاطي في السياسة أو اتخاذ مواقف سياسيّة. ما يُقصد عادة في هذا الكلام هو أنهم لا يريدون اتخاذ موقف معارض لوجه السلطة الحقيقية في لبنان. بعبارة أدقّ: يريدون أن يتجنّبوا القول أنه هنالك فريق سياسي يتمثّل بحزب الله على رأس الهرم، يشكّل العامود الفقري للسلطة اللبنانية الفاسدة ويشكّل القوّة الأساسية المضادة للثورة التي تريد الحفاظ على الأمر الواقع بالدماء إن اقتضى الأمر. هذا لا يعني أن بقيّة القوى السياسية أفضل أو أنظف من حزب الله، لكنّ القوى الأخرى لا تمتلك ربع ما يمتلكه هذا الحزب من سلاح ومؤسسات وتشدّد ديني ورغبة بالحفاظ على موقعه في النظام.

هنالك العديد من الأشخاص الذي يقفون في الجزء المائع من خندق “الممانعة”، تفاجئوا مؤخراً بخطابات أمين عام حزب الله المهاجمة للثورة وتفاجئوا أكثر بإرساله لبلطجيّته أكثر من مرّة إلى الساحات لإخماد الانتفاضة في النبطية وصور والبقاع وبيروت وغيرها من المناطق.
حزب الله وإلى جانبه حركة أمل كانا الطرف السياسي الوحيد الذي استخدم العنف في هذه الجولة وبدا أنهما مستعدّان لإراقة الدماء لإخماد الثورة والحفاظ على الأمر الواقع. ذلك ليس بمفاجأة للذين وقفوا مع الثورة السورية وشاهدوا حزب الله يشارك في حرب أهلية وفي قتل وحصار شعب آخر للحفاظ على الأمر الواقع في بلد ثانٍ، لكنّه على ما يبدو مفاجأة للكثير من المجموعات اليسارية والعلمانية في بيروت التي لا تزال تتردّد في اتخاذ موقف واضح من هذا الأمر.

من الواضح أن أي تغيير حقيقي إيجابي في لبنان سيكون عليه أن يصطدم بحزب الله عاجلاً أم آجلاً، كونه الحاكم الفعلي في النظام السياسي اللبناني والمستفيد الأوّل والأكبر منه، وسيكون على أي حركة ثورية في جولات المواجهة المقبلة مع السلطة أن تضع خزعبلات “لا نتعاطى السياسة” جانباً، وأن تتخذ موقف سياسي واضح من حاكم ولاية لبنان وحزبه.

في ساحة رياض الصلح في بيروت

 *

خلق بدائل طويلة الأمد هو المهمة الثورية الأولى

الفشل في لبنان هو فشلان: فشل الطبقة السياسية الحاكمة بحكم البلد، وفشل الفئات الرافضة بخلق بديل.
بعد 29 عام على انتهاء الحرب الأهلية، لا تزال الأحزاب الكبرى والأكثر حضوراً شعبياً في لبنان هي نفس أحزاب الحرب الأهلية، فيما لم تستطع الفئات الرافضة إنشاء مؤسسة جديدة واحدة أو حزب بديل واحد لديه أكثر من عشرة أعضاء دائمين في صفوفه.

إن حصل وجرت انتخابات نيابية جديدة اليوم، من الأرجح أن نفس القوى السياسية التي انتفضنا بوجهها ستعود بأكثرية إلى المجلس النيابي غداً، مهما كان القانون الانتخابي.
القوى السياسية الحاكمة في لبنان لها حضورها، لها تنظيماتها، ماكيناتها الانتخابية، ومؤسساتها الصحية والتربوية والرياضية والعسكرية الخاصة. لها أيدولوجيات وقيادات سياسيّة وكوادر ومؤسسات إعلامية. ما الذي تمتلكه القوى البديلة في وجهها؟ لا شيء باستثناء لحظات الغضب الشعبي العابرة.
الفئات الرافضة للنظام لم تستطع خلال العشرون عام الأخيرة انتاج مجلة الكترونية مستدامة حتى، ومعظم الأحزاب والمجموعات الجديدة تحوّلت بسرعة إلى ملحقات للسلطة أو انكفأت على نفسها بحضور محدود جداً.

ما يجعل من هذه النقطة خطيرة هو أنه هنالك ذهنية سائدة بقوّة ترفض كلّ محاولة وكلّ دعوة للتنظيم ولإنشاء مؤسسات، خوفاً من تكرار تجربة الأحزاب ربّما، أو ببساطة لأنها لا تريد لأحد أن يصل إلى أبعد مما وصل إليه. نحن نحتاج لعشرات المؤسسات البديلة ولعشرات المجموعات والأحزاب والطروحات، التي تنتج كلّ منها خطابها وطروحاتها وقياداتها، لكيّ يكون بالامكان تقديم بديل فعلي عن الطبقة السياسية الحاليّة، وإلا فسنبقى في نفس الدوّامة.

غياب هذه البدائل كان واضحاً في الحراك الحالي حيث كان هنالك ضياع تكتيكي في بعض اللحظات من دون القدرة على التصعيد أو التراجع أو تحديد الخطوات التالية. حتى حماية المتظاهرين من البلطجة، وهو موضوع كان سيحدّد في الكثير من اللحظات مصير الانتفاضة، كان موضع نقاش ورفض في بعض الاوساط – رغم أن كل الانتفاضات الشعبية في العالم تنشأ لجانها الخاصة لحمايتها وتنظيمها وتسيير أمورها. ظهرت هنالك فجوة كبيرة في الثقافة السياسية أيضاً في صفوف المحتجّين، يمكن للمؤسسات البديلة أن تعالجها كون ذلك يشكّل نقطة ضعف لنا في مواجهة مؤيدي السلطة المؤدلجين.

طبعاً سيقول أحدهم أن عدم وجود قيادات وممثلين لهذه الانتفاضة كان من نقاط قوّتها وأوافق على ذلك تماماً، وأضيف أن من أفضل الأشياء التي حصلت في هذه الانتفاضة هو غياب المتسلّقين والوصوليين وشخصيّات الناشطين الذين أفشلوا الحراكات السابقة بانتهازيّتهم وقصر نظرهم وعدم قدرتهم على التنظيم والتكتيك. هذا لا يعني أنه يجب رفض بروز بدائل بالمطلق، بل اعتقد أن انتاج بدائل حقيقية تتمثل بمجموعات سياسيّة منظمة وبمؤسسات إعلامية وتربوية واجتماعية ورياضية بديلة، هو المهمّة الثورية الأولى والأكثر أهمية.

شخصياً، البدائل التي آمل برؤيتها هي تلك المؤسسات الأنركية بطبيعتها، التي تركّز على إعادة السلطة للناس وإتاحة تأمين مقوّمات حياتهم ومعيشتهم اليومية محلياً بدل الاعتماد على منظومات مركزية، والتي تهدف على الأمد البعيد إلى تمكين المحلّيات على حساب الدولة المركزية، لكن جذوري الأنركيّة هي التي تتحدّث الآن ولن نتوسّع بها كي لا نتجاوز موضوع المقال.

إلى أين نتجه من هنا؟ لا أعلم، لكن ما هو واضح أنها الفرصة الأخيرة للطبقة السياسية اللبنانية للتنحّي والفرصة الأخيرة لنا لإنشاء بدائل حقيقية، لأن الأزمة إن استمرّت بوجهها الحالي، الانفجارات القادمة في السنوات المقبلة لن تكون رقصاً وأغاني. في هذه اللحظة الآن، وربّما على غير عادة، لدي أمل إيجابي للأفضل.

*

(الصور الواردة مع المقال هي بعدستي لكن يمكن استخدامها بحرية من دون حقوق نشر)

أضف تعليق