الخطايا الثورية الخمسة

*

طوني صغبيني

*

الثورة، كل ثورة، هي لحظة تاريخية غالباً ما تكون أكبر بكثير من المشاركين فيها. إنها ظاهرة أكبر من الفعل السياسي اليومي رُسم مسارها مسبقاً واختمر على مدى عشرات السنوات في السياسات والبُنى الاجتماعية والسياسية التي تحكم البلد.

منذ اندلاع انتفاضات العالم العربي في العام 2011 وصولاً إلى الانتفاضة اللبنانية المستمرة منذ أوكتوبر 2019، نلاحظ أن القوى المنخرطة في الثورة تكرّر في أحيان كثيرة نفس الأخطاء التي أفشلتها في الماضي. بما أن الثورة هي لحظة نادرة لتحقيق تغيير حقيقي – تغيير يعني الفارق بين الحياة والموت لملايين الناس – سنتحدّث هنا بطريقة نقديّة عن هذه الأخطاء، لا بهدف الانتقاد بل للمساعدة على ملاحظتها وتجنّبها.

*

الخطيئة الأولى: عدم وجود هدف واحد، بسيط، واضح، قابل للقياس عملياً وزمانياً

هنالك بعض الجاهلين الذي يكرّرون الجملة التالية عند كلّ ثورة: لا يجب أن يكون هنالك أهداف للثورة.

هؤلاء هم أعداء الثورة أكثر من السلطات لأن الثورة الخالية من الأهداف هي ثورة خالية من المعنى والفعالية. الهدف هو الشيء الأساسي الذي سيجتمع الناس من أجله.

على هذه الأهداف أن تكون واضحة لا شعاراً عاماً يمكن إلباسه أي شيء. الأهداف الغامضة والشعارات العامة تتيح المجال أمام أجزاء من الطبقة الحاكمة بالتسلّل إلى الثورة والتسلّق على ظهرها. الأهداف الواضحة أيضاً تساعد الناس على تحديد انخراطها بالثورة وموقفها منها.

شعار “إسقاط النظام” مثلاً، قد يعني نية إنشاء نظام إسلامي أو ديمقراطية اشتراكية أو فيدرالية جديدة أو حرب أهلية، وسيضم تحت جناحه أطراف متناقضة ومتصارعة كما أنه سيؤدي إلى مخاصمة فئات شعبية ستفهمه على هواها. شعارات “محاربة الفساد” و”استرداد الأموال المنهوبة” مثلاً هي أيضاً شعارات عمومية فارغة لدرجة أن الطبقة الحاكمة في لبنان والعراق تبنّتها كإحدى شعاراتها، فهو لا يحدّد الخصم ولا يسمّي الأسماء بأسمائها ولا يحدّد ما الذي يريد تحقيقه تحديداً. فلنقارن ذلك الشعار الفضفاض مثلاً مع شعار محاكمة الرؤساء الثلاث ومصادرة ثرواتهم: شعار من هذا النوع لا يوجد فيه مكان للالتفافات والهراء، ولا يترك مجالاً للسلطة للالتفاف عليه.

إطلاق عشرات الأهداف هو أيضاً أمر سلبي لأنه يشتّت الانتباه والجهود في اتجاهات مختلفة ومتناقضة ويسمح لقوى من السلطة بالادعاء بانتمائها للثورة.

لا يمكن للهدف أن يكون غير محدّد في المكان والزمان أيضاً لأن ذلك يبدّد من اندفاع الثورة ويؤدي إلى اليأس من تحقيق التغيير. الثورة فيها شعور طوارىء، فيها غضب واستعجال، ولا يمكن للقدرة على تعبئة الناس أن تستمرّ بنفس الوتيرة لأشهر وسنوات.

أخيراً، يجب على الهدف أن يحدّد وسيلة تحقيق التغيير بوضوح. هنالك في نهاية المطاف وسيلتان لتحقيق التغيير السياسي: الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات أو الاستيلاء على السلطة عبر العنف. الثورة التي تعلن أنها لا تريد أن تصل إلى السلطة (كما حصل في لبنان والعراق)، هي ثورة تعلن عن نفسها أنها لا تشكّل تهديداً للسلطة الحاكمة ويمكن تجاهلها.

*

الخطيئة الثانية: عدم وجود حركات منظّمة لها أهداف واضحة وملتزمة بتحقيق أهداف الثورة.

لا يوجد قيمة للأهداف إن لم يكن هنالك قوى منظّمة تعمل على تحقيقها. صحيح أن الثورات هي ردّات فعل اجتماعية غير منظّمة لكن إن أردنا تحقيق تغيير حقيقي طويل الأمد، يجب أن يكون هنالك قوى منظّمة ملتزمة به لأن القوى المناوئة للتغيير هي بدورها قوى منظّمة.

قلنا سابقاً أن خلق بدائل سياسية واقتصادية واجتماعية عن مؤسسات النظام القائم يجب أن يكون المهمّة الثورية الأولى والأكثر أهمية. سنكرّر قول الأمر نفسه هنا:

نحن نحتاج لعشرات المؤسسات البديلة ولعشرات المجموعات والأحزاب والطروحات، التي تنتج كلّ منها خطابها وطروحاتها وقياداتها، لكيّ يكون بالامكان تقديم بديل فعلي عن الطبقة السياسية الحاليّة، وإلا فسنبقى في نفس الدوّامة.

طبعاً في لبنان كما في بقيّة أنحاء العالم العربي، هنالك بعض الحركات اليسارية المنظّمة التي تشكّل جزءاً فاعلاً في الثورة لكنّها ليست كافية. فهي أولاً حركات صغيرة لم تستطع بعد تشكيل منافسة حقيقية للقوى السياسية الكبرى، كما أنها غالباً ما تقوم على إعادة تدوير الطروحات اليسارية التي فشلت في الماضي، حاملة نفس النزعات السلطوية والأيدولوجية التي دمّرت اليسار السابق.

اعتقد أن كلا اليسار واليمين غير قادران اليوم على الإجابة بفعاليّة على تحدّيات الانهيار البطيء للحضارة ولا يزالان يعملان وفقاً لقواعد لعبة العالم القديم الذي انتهى. رغم ذلك، اعتقد أن وجود حركات منظّمة إن كانت يساراً أو يميناً أو ما يتجاوزهما، هو أفضل من عدم وجود حركات على الإطلاق.

أعداؤنا منظّمون وملتزمون بأهدافهم من عصابات الدولة إلى عصابات المصارف إلى عصابات الأمن والظلاميين، ولا نستطيع مواجهتهم كأفراد معزولين.

*

الخطيئة الثالثة: عدم وجود آلية واضحة لإبعاد الأشخاص غير المناسبين والمتسلّقين من الصفوف الثورية

كل حركة منظّمة في التاريخ وكل ثورة تدخل عاجلاً أم آجلاً في معضلة التعاطي مع المتسلّقين والأشخاص غير المناسبين في صفوفها. إن لم يكن هنالك آلية واضحة للتعاطي معهم مثل إبعادهم عن صفوف التنظيم أو عزلهم إعلامياً وسياسياً على لائحة سوداء للثورة، ستنمو ظاهرة الطفيليات وتتكاثر. الطفيليات قد تصبح مع الوقت وجوه بارزة وتتسلّم مواقع قيادية تؤثّر على كلّ مسار الثورة، لأن السلطة والإعلام يفضّل عادة التعاطي معهم على التعاطي مع الراديكاليين الثوريين.

في الانتفاضة اللبنانية مثلاً، هنالك بعض المحاولات من هذا النوع لكن عدم وجود هدف واضح سمح لعدد كبير من الطائفيين والطفيليين والمتسلّقين التحدّث باسم الثورة وتشويشها بشكل مباشر أكثر من مرّة.

*

الخطيئة الرابعة: على الثورة تحقيق أهدافها بسرعة قبل فسادها المحتوم

العديد من الناس لا يستطيعون التعامل مع هذه المعضلة: كل ثورة كبرى ستفسد عاجلاً أم آجلاً. الأمر نفسه ينطبق على الحركات السياسية.

هنالك أسباب علميّة وراء ذلك: يمكن للثورة تحقيق أهدافها فقط حين تصبح حركة كبرى، قوية، حسنة التنظيم وبمتناولها الكثير من الموارد، أي يمكن للثورة تحقيق أهدافها في اللحظة نفسها التي تكون في ذروة قابليتها للفساد.

هذا الفساد ليس بالضرورة فساد القائمين عليها رغم أن السلطة والثروة قد تفسدهم بسرعة، ما نقصده هو الفساد الذي سيظهر على شكل صراعات على السلطة والموارد وتغيّرات في الأولويات. هذا الفساد نراه أحياناً منذ بدايات الثورة حتى. هذا يعني أنه على الثورة أن تحقّق أهدافها بأسرع ما يمكن في ذروة قوّتها وعدم انتظار أي شيء.

*

الخطيئة الخامسة: على التحوّل الذي تقوم به الثورة أن يكون غير قابل للعكس ولا يستوجب تدخّلها المستمرّ للحفاظ عليه

من الصعب شرح هذه الفكرة لأن كل شيء في الواقع السياسي والاجتماعي قابل للعكس مع الزمن لكن هنالك اختلاف بالدرجات.

على سبيل المثال، منع تدخّل رجال الدين في شؤون السياسة والمجتمع هو أمر صعب التحقيق من دون الضغط المستمرّ من الثورة وهو قابل للعكس بسهولة. في المقابل، إصدار قوانين للزواج المدني الإلزامي وإلغاء القضاء الديني والامتيازات الضريبية للمؤسسات الدينية عبر قوانين تشريعية نهائية هو أمر يصعب عكسه فيما بعد ولا يستوجب الضغط المستمرّ من الثورة للحفاظ عليه مقارنة مع الحالة الأولى.

تأميم أو خصخصة قطاع اقتصادي هو أمر أصعب للعكس من مجرّد إصلاح الشركة أو تحقيق تغييرات إدارية فيها. تغيير شكل البلد من دولة مركزية إلى فيدرالية حيث تمتلك كلّ منطقة أنظمتها ودستورها الخاص، هو أمر أصعب للعكس مقارنة مع إصدار مرسوم تنفيذي بتوسيع اللامركزية الإدارية.

التغيير الثوري الحقيقي هو التغيير الذي لا يمكن للقوى المناهضة للثورة أن تجهضه بسهولة بعد فترة قصيرة من تطبيقه. لا نقول أن كل ثورة يجب أن يكون لها أهداف جذرية من هذا النوع (لأن بعض الثورات مجرّد انفجار اجتماعي يمكن معالجته من دون تغييرات جذرية)، لكن على القوى الثورية أن تعي أن الأهداف التي تستوجب منها التدخّل والضغط المستمر للحفاظ عليها لن تكون مستدامة وليست واقعية، وعليها بالتالي أن تفكّر بتحقيق أهدافها بطريقة لا يمكن إجهاضها بسهولة بعد فترة.

 

أضف تعليق