هل العيش البسيط هو ترف للأثرياء وموضة للهبسترز؟ نقاش جديد قديم حول فلسفة البساطة

*

طوني صغبيني

*

الحديث عن العيش البسيط هو، للمفارقة، دائماً ما يكون معقّداً. في كتابنا الصغير عن البساطة بعنوان “الهروب من السيستيم”، قلنا أن البساطة هي أمر أعمق من مجرّد القيام بجردة لممتلكاتنا الشخصية، وأنها أسلوب حياة كامل يركّز على تحقيق استقلاليتنا الذاتية وبناء حياة نرضى فيها. اليوم وبعد أربع سنوات من صدور الكتاب، يتنامى الاهتمام بالبساطة في صفوف الشباب، لكن الأسئلة التي تُطرح حول هذا الموضوع تتغيّر أيضاً. في الماضي، كانت الثقافة السائدة ترفض البساطة بشكل عام وتعتبرها أمر مخجل، بل مخزي، لأنها رأت فيها حياة الفقراء – ونحن مجتمعات تحكم على الناس بحسب أحوالها المادية بشكل عام. اليوم، السؤال السائد هو العكس: هل البساطة هي ترف محصور بالأغنياء والهيبيز “المودرن”؟

هذا السؤال طرحه المدوّن طريف مندو في مقال بعنوان “وحدهم الأثرياء من يمكنهم تحمّل هذا القدر من البساطة“. طريف هو أوائل من نشروا محتوى رقمي عن البساطة باللغة العربية ودائماً ما استمتع بقراءة تدويناته لسلاستها وأسلوبها الواقعي في مقاربة الأمور، واتفق معه في المقال المذكور على معظم الأمور التي ذكرها واختلف في بعضها، لكن اعتقد أن ما يعبّر عنه طريف هنا هو أكثر من مجرّد تحوّلات شخصية ورأي فردي، ويدلّ على تطوّرات أكبر طالت حركة العيش البسيط حول العالم خلال السنوات الأخيرة.

يقول طريف أن نظرته للبساطة وتطبيقه لها شهدت تطوراً ملحوظاً مع نضوجه وتجاربه الشخصية بعد الزواج، وفي تعليق على بعض الصور التي تظهر غرفة لا يوجد فيها سوى سرير وطاولة صغيرة، يخلص إلى التالي:

“لو عدتَ وسألتني عن رأيي بالصور السابقة (أو بنمط الحياة الذي تُمثّله) لأجبتُك أنه نمط حياة يخصّ الأثرياء، ولا يرتبط بالبساطة التي يُفترض أن تُعين الطبقة الوسطى (…). هل هذه الصور قابلة حقًا للتطبيق؟ أجل، لكن فقط بالنسبة للأثرياء!

كأبناء للطبقة الوسطى نحن نعتمد بشكل أساسي على تخزين الأشياء لإدارة المصروف وتقليل الاستهلاك”.

يورد طريف عدّة أمثلة عن هذا الأمر حيث يقول أن الخروج للعمل مع لابتوب فقط مثلاً، يعني الاعتماد على شراء الطعام والقهوة من الخارج. الأمر مشابه في حالة عدم وجود خزانة للملابس في المنزل أيضاً، ما يعني أن سكّان هذا المنزل سيلجأون على الأرجح للتخلص من ملابسهم القديمة وشراء ملابس جديدة كل موسم بدلاً من تخزينها، وهكذا دواليك في بقية نواحي الحياة كأثاث المنزل والأدوات الالكترونية وما شابه.

أوافق مئة في المئة مع فكرة أن امتلاك أشياء قليلة اليوم لا يعني بالضرورة حياة أقل استهلاكية؛ بل اعتقد أن الحياة العصرية في الواقع تشجع على امتلاك أشياء مستدامة أقل والاعتماد على الاستهلاك والخدمات الخارجية أكثر. لقد شاهدنا خلال السنوات الأخيرة صعود قطاع الخدمات المنزلية الخارجية حيث أصبح بامكانك استئجار كافة الخدمات التي يمكنك أن تقوم بها بنفسك في منزلك، من غسيل الملابس إلى التنظيف إلى الطعام إلى التنقل إلى دليفري الأرغيلة (الشيشة). رافق ذلك صعود استهلاك منتجات الاستخدام الواحد، من أكواب البلاستيك إلى الكاميرا التي ترميها بعد استخدام واحد.

نظرياً، يمكنك العيش في غرفة لا يوجد فيها سوى سرير وطاولة ولابتوب، لكن سيكون عليك أن تعتمد على الدليفري وخدمة أوبر وأكواب البلاستيك وأن تدفع ثروة صغيرة وتنتج مئات الكيلوغرامات من النفايات كل عام. ما الذي يحدث هنا؟ هنالك عدّة أسباب لذلك.

هل هذه هي البساطة؟ جوابي الشخصي هو لا. إنها تقليلية minimalism، لكنها ليست بساطة simplicity. لشرح ذلك، اعتقد أنه من المفيد التمييز بين ثلاثة أشياء: التقليلية، البساطة، والهيبسترية (مشتقة من هبستر والهيبيز).

*

التقليلية، البساطة، والهبسترز

البساطة هي أسلوب حياة يركز على التخفّف من الممتلكات والأشياء والاستهلاك قدر المستطاع، والاستفادة من الخفّة لتحقيق مساحة ذهنية ونفسية ومادّية ذاتية أكبر وأهدأ وأكثر سلاماً. الفكرة أيضاً هي بناء صلة أكثر عمقاً ومعنىً مع عدد أقل من الناس والممتلكات والتطبيقات، بدلاً من العيش عبر صلات سطحية مع أكبر عدد ممكن من الناس والممتلكات والتطبيقات. البساطة هي جزء من هوية متكاملة، تتصل بطريقة أو بأخرى بالقيم التي يحملها الشخص وكيفية رؤيته للحياة. حتى حين تكون البساطة محدودة التطبيق في حياة الفرد، وجودها يعبّر دائماً عن قيمة معيّنة متناقضة مباشرة مع القيم الثقافية السائدة – أي القيم المتمثلة بإشباع أكبر قدر ممكن من حاجاتنا الاستهلاكية بأسرع وقت ممكن ومن دون أي اعتبار لشيء أو شخص آخر.

التقليليلة (minimalism) بدورها، هي شيء مختلف. التقليلية هي أولاً وآخراً أسلوب في العرض البصري visual presentation، لا أسلوب في العيش. التقليلية المعاصرة بدأت كحركة فنية في صفوف الرسّامين والنحّاتين في ستينيات القرن العشرين، وتفرّدت بتقديم نتاجها الفنّي بأقل قدر ممكن من العناصر والألوان. في وقت لاحق، أثرت التقليلية في الهندسة العمرانية بدرجة كبيرة (معظم الهندسة الحديثة هي هندسة تقليلية)، وانتقلت فيما بعد إلى الديكور الداخلي والموضة وأصبحت مع الوقت إحدى أشكال التعبير البصري عن الثروة في صفوف الأغنياء. لعلّ المثال الأشهر على أثر التقليلية بالثقافة المعاصرة هو شركة آبل التي تعتمد على التقليلية كركن أساسي في تصميمها البصري، والذي ساهم مؤسسها ستيف جوبز في نشر موضة التقليلية في صفوف الأثرياء كونه اتبع حياة بسيطة وتقليلية في الوقت نفسه. فهم التقليلية كظاهرة في التصميم البصري هو أمر مهم، لأن العديدون يخلطون بينها وبين البساطة، ومنهم أتباع التقليلية نفسها.

للتمييز بين التقليلية والبساطة، فلنفكر بالمثال التالي: الدفتر الورقي والهاتف الذكي. الدفتر الورقي قد يكون له غلاف بصري معقّد (وبالتالي غير تقليلي)، لكنه هو نفسه أداة بسيطة وغير معقّدة. الهاتف الذكي يمكن أن يكون له تصميم تقليلي وقد تكون واجهته نظيفة ومرتبة وخالية من أي أيقونة، لكن حين نفتحه نجد مئات التطبيقات والبرامج والمستلزمات التقنية، الهاتف الذكي ليس أداة بسيطة إذاً. التقليلية هي صفة متعلّقة بالشكل البصري، البساطة هي صفة متلّعق بوظيفة وطبيعة الشي نفسه. ما هو تقليلي بالشكل، ليس بالضرورة بسيطاً في المضمون، والعكس صحيح. الأمر نفسه ينطبق على الناس.

التقليلية الحديثة المنتشرة في صفوف الأثرياء تشبه إلى حد بعيد أسلوب “الإخفاء” في التصميم الداخلي: هنالك اتجاه سائد اليوم يعتمد على وجود واجهات نظيفة في كل المنزل، حيث يتم إخفاء كل البنية التحتية في الحيطان والخزائن، فلا يوجد وصلات كهربائية ظاهرة أو مقابض للأيدي للجوارير والخزائن وحتى البراد والغسالة وما شابههما من أدوات تكون مخفية خلف خزائن في المطبخ.

حين تنظر إلى المطبخ أعلاه في الصورة مثلاً ستعتقد أنه خالي من التجهيزات الحديثة، لكن في الواقع كل شيء مخفي وراء الخزائن التي تضم البراد وغسالة الصحون ونشافة الصحون والميكروويف والغاز والفرن وقوارير المياه وخزائن الطعام وأدوات المطبخ. هذا المطبخ هو في الواقع أكثر تعقيداً بكثير من المطبخ العادي لأن فيه عدد أكبر من الأدوات والتجهيزات. هكذا هي موضة التقليلية السائدة: وراء الواجهة النظيفة والأنيقة التي توحي بالبساطة، هنالك كميّة هائلة من التعقيد والاستهلاكية.

ما علاقة ذلك بالهبسترز؟ الهبسترية هي مثل موضة التقليلية في صفوف الأغنياء، لكنها تنتشر بين صفوف من لا يملكون ما يكفي من المال لتعقيد حياتهم بالأشياء فيعقّدوها بالأفكار والمعتقدات والمفردات، وبدلاً من التركيز على التصميم الداخلي للمنزل يركّزون على التصميم الخارجي للشعر والأكسسوارات والملابس.

طبعاً، العديد من القرّاء قد يصبحون دفاعيين هنا إن اعتقدوا أنني اتحدّث عنهم، لأن كلمة “هبستر” اليوم تستخدم للسخرية من كل شيء مختلف، لكني لا اقصد هنا كل شخص يحمل أفكار بديلة أو يتبع أسلوب حياة غير تقليدي أو موضة بديلة – فأنا من هؤلاء. ما اقصده هنا هو فئة معيّنة من الذين يعلنون رفضهم للمجتمع الاستهلاكي ليلاً نهاراً لكن لا يتعدّى إيمانهم بالبساطة أكثر من موضة في الملابس وملصق على اللابتوب وحضور حفلات الموسيقى البديلة. بذلك، هم يتشابهون مع التقليلية في صفوف الأغنياء، حيث أن الأمر لدى الاثنين غالباً ما هو محصور بالشكل الخارجي للحياة، لا بمضمون الحياة نفسها.

ما أن ندقّق في نمط حياة معظم الهبسترز سنجد أن غالبيتهم تعيش بتناقض مع قناعاتها المُعلنة. يتحدّثون عن المجتمع الاستهلاكي ويبدأون يومهم بقهوة ستارباكس، يتحدّثون ليلاً نهاراً عن البيئة لكنهم لم يزرعوا نبتة في حياتهم وينزعجون من الوحل والتراب، أو يقضون شبابهم يتحدّثون عن التحرّر والتغيير ثم يصبحون الموظف المطيع الذي يحلم بسيارة جديدة عند أوّل وظيفة دائمة.

اعتقد أن جذور التعلّق “الهبستري” بفكرة الحياة البسيطة تعود إلى مشكلة مع الالتزام والمسؤولية. سواء كنا نتحدّث عن العلاقات العاطفية، العمل، أو الممتلكات، الهبسترز لا يريدون أيّ من تلك الأمور إجمالاً، لكن ليس لأنهم يريدون أن يكونوا أحراراً منها بقدر ما يكرهون الالتزام الذي تعنيه. رفض الالتزام بشيء محدد ليس أمراً خاطئاً (ومجتمعاتنا خاصة تفرض علينا الكثير من الالتزامات الهرائية)، لكن المشكلة هي تقديم رفض الالتزام على أنه شيء آخر، على أنه فضيلة ما أو قيمة عليا متعلّقة بالحياة البسيطة.

المشكلة هنا أيضاً أن رفض الالتزام بكل شيء يحققّ عكس الهدف المنشود منه تماماً، فيصبح الشخص معتمداً على الآخرين بكل شيء في حياته تقريباً من السكن إلى التنقّل إلى الحاجات العاطفية والجسدية – وكل ذلك يتعارض إلى حد كبير مع الاستقلالية الذاتية كقيمة أساسية في العيش البسيط. إلى ذلك، أحد الأهداف الأساسية في البساطة هو إتاحة الفرصة لتعميق صلتنا مع كلّ ما هو حولنا، مع المكان والناس والذات، والرفض المطلق للالتزام بشيء يعني أننا لن نبني هذه الصلات أبداً، وسنحاول تعويض ذلك داخلياً بعيش حياة قائمة حصراً على ملاحقة النشوة – ولذلك مثلاً السفر الدائم هو أسلوب الحياة الأسمى بالنسبة للهبستر لكن ذلك حديث آخر.

*

الهدف الحقيقي للبساطة: عود على بدء

بين تقليلية الأثرياء وهبسترية الطبقات الأخرى، هل هنالك شكل نقي من البساطة يمكننا اتباعه؟ بالتأكيد لا! فكرة وجود أي نمط حياة “نقي” هي فكرة خطيرة وتتبخّر عند أوّل احتكاك بالواقع. البساطة هي في النهاية نمط حياة شخصي وهنالك درجات متفاوتة منها، لا يوجد لها وصايا مُنزلة يجب على الجميع اتباعها. رغم ذلك، هنالك فخّ أساسي يقع فيه العديد من الأشخاص الذين يحاولون تحقيقها في حياتهم، وهي اعتقادهم أن البساطة هي حالة نهائية يحصلون عليها مرّة واحدة للأبد – بدل أن تكون عمليّة مستمرّة في حياتهم.

الحقيقة هي أن حياتنا اليوم تتجه إلى المزيد من التعقيد باستمرار ولذلك علينا القيام بجهد واعي ومستمرّ لتبسيطها كلّ فترة، وإلا سنجد أنفسنا نعتقد أننا لا نزال نحمل البساطة كقيمة حياتية فيما تكون حياتنا الفعلية معقّدة واستهلاكية. اعتقد أن التحدّي الحقيقي في تحقيق البساطة يأتي بعد الاستقرار الوظيفي والزواج بعدّة سنوات، لأن الضغوط لتعقيد الحياة تبلغ ذروتها في هذه الفترة. التضخّم في أسلوب العيش بطيء لدرجة لا نراه أحياناً حتى ولو كان أمامنا، لذلك علينا في كلّ فترة أن نعيد النظر في حياتنا ونرى ما تعقّد منها لتبسيطه؛ سواء كنّا نتحدّث عن خزانة ملابسنا أو عن ما نفعله في يومياتنا.

في الختام، ورغم انتقاداتنا الآنفة، نعود ونقول أنه لا يوجد نسخة واحدة صحيحة من البساطة؛ الحياة الحديثة تضع علينا كمية متزايدة من الضغوط، ومن الواضح أن نمط الحياة الذي نعيشه يقتلنا ويثقلنا نفسياً وروحياً وذهنياً وجسدياً بشتى الطرق. من الطبيعي أن يكون هنالك عدد متزايد من الناس يبحثون عن مخرج ومن الطبيعي أن تكون مقارباتهم لذلك مختلفة، لكن يبقى أن أهم ما يمكن أن نتذكّره حين يتعلّق الأمر بالعيش البسيط هو التالي: البساطة ليست حول خياراتنا الاستهلاكية فقط، بل هي عن صلاتنا مع العالم من حولنا، وهذه الصلة تصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى في حياة تضعنا كلّ لحظة وجهاً لوجه مع مئات الأشخاص والتطبيقات والقضايا والأشياء التي تتنافس للحصول على انتباهنا وكلّها تطلّب منّا شيئاً تلو الآخر.

لا أحد يبدو راضٍ عن حياتهم لأنه دائماً ما يبدو هنالك هاتف أحدث، مركز وظيفي أعلى، بلد أفضل، ومؤخرة أكبر مما لدينا، ونريد الحصول عليهم جميعاً. البساطة هي أن نتخذ خيارٍ واعي للالتزام بمن نحب وبما نحب، بدل أن نسعى للحصول على المزيد من كلّ شيء طوال الوقت، ولو عنى ذلك أن نحب شخصاً واحداً فقط، أن نرى مكاناً واحداً ونقرأ كتاب واحد. لحظة واحدة بقلب حيّ وممتلئ أفضل من حياة بأكملها نقضيها بقلب مزدحم لكن فارغ ومتعب.

أضف تعليق