للعصابة الحاكمة في لبنان: ستكون حرباً

حول ضرورة استخدام العنف في وجه السلطة

ليس هنالك من طريقة لقول هذا الأمر بشكل مختلف: الطبقة الحاكمة في لبنان لن تفهم سوى لغة القوّة، لن تفهم إلا حين يصبح كل ما تملك وكل ما هو غالٍ على قلبها في النار.

هذه ليست دعوة للعنف المفتوح والعشوائي، لكنها بالتأكيد دعوة لشنّ حرب على السلطة وحاشيتها وممتلكاتهم. لا يجب أن يكون لدينا أوهام حول الأهداف التي نريدها من ذلك، فنحن لا نريد أن “نربّي” هذه السلطة، ولا نريد أن نزرع الخوف في قلوبهم أملاً باستحصال بعض الحقوق، بل نريد أن ندمّرهم وكل ما يملكوه، لكي يرحلوا عن البلاد أو يعلّقوا من على حبال المشانق في الشوارع. كلّن يعني كلّن.

لا نريد أن ننزلق إلى مواجهة الفقراء بفقراء آخرين وعلينا أن نواجه الطبقة السياسية مباشرة، لا فقراءها، وهذه الطبقة السياسية لها أسماء وعناوين ومؤسسات، ولا شيء منها يجب أن يسلم منّا. أما حياتهم، من هم على رأس الهرم، فهي الثمن الذي يجب أن يدفعوه إن بقيوا في الحكم. لا يجب أن نقبل بأقل من ذلك.

العنف آتٍ لا محالة

في كلّ اشتعال للعنف يحتدّ النقاش حول “السلمية والعنف” حيث ينقسم العدد الأكبر من الناس بين مؤيد ومحذر من “الدعوات للعنف”، لكن الحقيقة هي أن العنف لم يحصل يوماً من خلال دعوة، العنف الشعبي هو ردّة فعل طبيعية على سلطة ظالمة، يخرج من تلقاء نفسه ويتوقّف من تلقاء نفسه حين يزول هذا الظلم.

من السخافة أن نعتقد أن بضعة جمل مكتوبة أو محكية يمكن أن تدفع مئات وآلاف الناس للتضحية بسلامتهم وأمنهم لمواجهة الدولة بالصرخات والقنابل الحارقة، ومن الأسخف أن نعتقد أن الحديث عن “الحضارية” و”السلمية” يمكن أن يملأ المعدات الخاوية وأن يمحو الألم الذي نعيشه كل يوم، نحن الذين لم يعد لدينا شيء لنخسره أصلاً.

العنف آتٍ، وهو آتٍ وسيتصاعد لأن السلطة الحاكمة في لبنان ظالمة ولا تكترث لنا لو صرخنا بوجهها لسنوات. نحن لا نتعاطى هنا مع رجال دولة ومفكّرين أو حتى مسؤولين فاسدين يخافون سخط الناس أو سياسيين يقلقون على نتائجهم الانتخابية المقبلة، بل نتعاطى مع مجرمين وزعماء عصابات لا يفهمون سوى اللغة التي يتحدّثون بها كل يوم: لغة المال والقوّة، والناس تعرف ذلك.

العصابة الحاكمة هي التي تتحمل مسؤولية العنف

عند كل اشتعال للعنف تراهن السلطة على انقسام الانتفاضة في وجهها وتبدأ بدفع فئات من الانتفاضة لانتقاد بعضها البعض والتخاصم على أساس التأييد أو المعارضة للعنف. لن أخوض هنا في تفاصيل هذا الانقسام لكن علينا أن ننتبه إلى أنه لا يخدم سوى السلطة التي تتحمل في الأساس مسؤولية الوصول إلى هذه الحالة.

العنف هو بكل بساطة نتيجة رفض السلطة الاستماع للاحتجاجات السلمية وتماديها في الظلم لسنوات وأشهر، ولم يكن العنف يوماً لأن أحدهم استيقظ صباحاً وأراد فجأة أن يحرق مصرفاً في الشارع.

لا اعتقد أنه هنالك طائل من إقناع الأيدولوجيين السلميين بالعنف، لكن آمل أنه إن كان أحدهم يقرأ هذه السطور وخاصة من هم في موقع مسؤولية في قوى الانتفاضة “السلمية”، أن يدركوا أن الموقف الصحيح لتحقيق النتائج التي يريدوها هي تحميل السلطة مسؤولية هذا العنف وإبقاء صدورهم في مواجهتها هي ومطالبتها بمعالجة جذر المشكلة لإخماد هذا العنف، بدل أن يديروا ظهرهم للسلطة وينوبوا عنها في مواجهة المنتفضين في الشوارع.

عليهم أن يدركوا، أنه تكتيكياً، الجناح المتطرف والعنيف هو الذي يدفع السلطة السياسية للتجاوب لمطالب الجناح السلمي بعد أن تنفذ منها خيارات الاستمرار في المواجهة.

حرب طويلة الأمد

حين نتحدّث عن العنف، يعتقد البعض أنه يجب أن يكون شاملاً من دون قيود وأن يشمل كل شيء والجميع، وهذا حسن لو أن الأمر يتعلق فقط بالانتقام. الانتقام من السلطة هو طبعاً جزء من الأمر، لكننا نريد أيضاً أن نحقّق أهدافنا وأن نرفع الظلم وأن نستحصل أكبر ما يمكن من الحقوق من دون أن نعيد الدورة نفسها ونخسر مكتسباتنا مراراً وتكراراً، ومن دون أن ننزلق أيضاً إلى حرب خاسرة بشروط السلطة ولعبتها.

في نهاية المطاف نحن نتعاطى مع أمراء حرب لهم ميلشياتهم وكلابهم الطائفية فضلاً عن مؤسسات الدولة العسكرية، وحتى ولو حصلنا على كل أموال وأسلحة العالم لا يوجد ضمانة أننا سنخرج من حرب مباشرة من هذا النوع بانتصار. كل من يقول أن العنف يجب أن يخلو من الاستراتيجية والأهداف وأنه يجب خوض حرب تقليدية مفتوحة هو إما مندسّ أو غاضب مقهور يدفعه غضبه لعدم التفكير.

في الحالة الأخيرة (المقهورون الذين يدعون للعنف من دون قيود)، الغضب مفهوم لكنني سأقول أمراً هنا قد لا يعجب البعض: يمكننا أن نخوض معركة حامية واحدة بالغضب وعلى الأرجح ألا نحقق الكثير من النتائج، أو يمكننا أن نتحوّل إلى كابوس للسلطة، نخطط بحنكة وبرودة وإصرار لحرب طويلة الأمد نعلم أنها ستمتد لسنوات ولا نريد منها تسجيل المواقف لأننها لا نقبل فيها بأقل من الانتصار.

طبعاً لا اتحدث هنا أيضاً عن أن الشارع المنفجر يجب أن ينتظر أحداً ليخطط في مكتب ما، بل اتحدث عن الناشطين والقوى المنظّمة الموجودة في الشارع التي يجب أن تركّز مهمّتها على وضع إطار للعمل يحقّق نتائج، بدل أن نبقى ملعونين بحلقات ردّات الفعل التي لا تحقّق الكثير.

خوض حرب طويلة الأمد يعني أننا يجب أن نفكّر عشر خطوات للأمام وأن نسبق السلطة دائماً بخطوة، ويعني أننا يجب أن نستغلّ نقاط قوتنا ونقاط ضعفهم، ونواجههم حيث نحن أقوياء وهم ضعفاء. بعبارة أخرى، اتصوّر حرب طويلة الأمد تستهدف لتدمير كل ما يعود لأعضاء الطبقة الحاكمة كممتلكاتهم وقصورهم وسياراتهم ومؤسساتهم الاقتصادية والتمكّن منهم ومن حاشيتهم عندما تسنح الفرصة حتى رحيلهم عن البلاد أو سجنهم أو موتهم.

اعتقد أن التالي سيكون محط خلاف: يجب تجنّب استهداف الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالأمر قدر المستطاع وتجنّب المواجهة المباشرة مع قوى الأمن والجيش لسببين: السبب الأول هو أن كل إسالة للدماء ستدخل القضية في وحول بشعة من السهل تحويرها طائفياً أو مناطقياً وستخسر الانتفاضة والمطالب المرفوعة جزء كبير من شرعيتها فوراً وسيتم وضعها في مواجهة مباشرة مع العائلات أو الفئات التي سالت منها الدماء، وستنزلق المواجهة بسرعة من انتفاضة بوجه سلطة فاسدة إلى مواجهة بين فئات شعبية متصارعة (سيكون فيها فقراء على الجهتان، كي لا نخدع أنفسنا بشعارات طبقية في غير مكانها).

والسبب الثاني هو أن المواجهة من هذا النوع محدّدة نتيجتها سلفاً بالخسارة، فنحن سنكون نواجههم حيث نحن ضعفاء وهم أقوياء، يضعون بوجهنا فقراء معدمين مثلنا، لكنهم أفضل تجهيزاً وتدريباً وتنظيماً منا، من دون أن تتأثر السلطة السياسية بشيء.

لا اتحدّث هنا عن رمي الحجارة على قوى الأمن في الشوارع فهذا أمر طبيعي ويحصل في كلّ العالم ولا يستحقّ النقاش أصلاً، لكنني اتحدّث هنا عن بعض الدعوات التي تعتقد أن فتح مواجهة مباشرة مع قوى الأمن والجيش هو الخطوة التالية، وهذه الدعوة أقل ما يمكن وصفها به هو أنها قصيرة النظر أو مشبوهة.

هذا لا يعني أيضاً أن امتناع القوى الثورية عن الاشتباك مع الجيش والأمن يضمن أن هذه المؤسسات ستقف على الحياد خلال المواجهة القادمة، ولا يجب علينا أن نتوهم أن تعاملنا معهم بطريقة مختلفة يعني أنهم سيتوقفون عن أن يكونوا حراس السلطة وأداتها للقمع، لكن هذا لا يجب أن يغيّر من استراتيجية التعاطي معهم. إضافة إلى ذلك، التركيز على مؤسسات الطبقة الحاكمة حصراً قد يساهم في إضعاف إرادة القتال في المؤسسات الأمنية وامتناع بعض الضباط عن تنفيذ أوامر القمع لأننا لا نعطيهم دافعاً إضافياً ليقوموا بعمل السلطة القذر.

وماذا بعد الحرب؟

لا نستطيع أن نمتلك كل الأجوبة، والجواب الذي نملكه الآن هو أننا وصلنا إلى حائط مسدود مع السلطة وعلينا الانتقال إلى تدميرها وكل ما تملكه بدلاً عن مطالبتها بالعدالة.

الطريق برأيي يتمثل بإقصاء كافة أعضاء الطبقة السياسية الحالية عن الحكم، قسراً أو طوعاً، بالقوة أو بالانتخاب، لأن الهدف الأساسي يجب أن يكون الاستيلاء على السلطة السياسية أو على أكثر ما يمكن منها، وتفكيك الدولة المركزية، وإقامة فيدرالية أو لامركزية تعطي صلاحيات كبيرة للمحلّيات على حساب الدولة المركزية وتكون قائمة على العدالة الاقتصادية-الاجتماعية والحريات وحقوق الإنسان. 

اعلم أن كلمة فيدرالية تقلق الكثيرين لكن بعد الطبقة السياسية الحالية اعتقد أننا نكون أغبياء إن سمحنا لطبقة أخرى بتسلّم الدولة المركزية بدل تفكيكها وإعطاء السلطة للمحليات. شخصياً لا ثقة لي بتاتاً بفكرة الدولة أصلاً ولا أؤمن بأي طرح يريد تكبير مؤسسات الدولة وتسليم المزيد من قطاعات المجتمع للحكومة، فالحكومات المركزية هي مجرد عصابة أخرى مهما حملت من شعارات. يجب تقصير المسافة بين السلطة والناس لا تكبيرها، بشكل يجعل المحاسبة أسهل وبشكل يقلّص من كمية السلطة والثروات المتاحة لمن هم في الحكم.

لكن هذه كلها نقاشات لوقت آخر. الوقت الآن هو وقت الحرب.

أضف تعليق