هل يصنع الفايسبوك الثورات؟ إشكاليّات الفايسبوك كأداة سياسيّة (2\3)

...

* * *

(هذا المقال هو جزء من سلسلة: العيش كصورة، كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة – يمكن الضغط على هذا الرابط للعودة إلى الفهرس)

(يمكن تكبير الخطّ على الشاشة عبر الضغط على +CTRL)

* * *

مشكلة تشتيت الرأي العام

ما تحدّثنا عنه آنفاً يفتح الباب أمام تساؤل طبيعي: هل مواقع الإعلام الاجتماعي كالفايسبوك تشجّع حقاً على توجيه الرأي العام إلى القضايا الإنسانيّة أم هي تساعد على شرذمته وتجعله عديم الفائدة أمام الاستحقاقات المهمّة؟ كيف يمكن للإعلام الاجتماعي أن يُعتبر أداة مهمّة للتغيير الإيجابي إن كان هنالك مثلاً، طاغية مجرم قادر على جمع مئات آلاف المواطنين في صفحة على الفايسبوك للتغطية عن جرائمه؟

صحيح أن الفايسبوك أعطى صوتاً للجميع، لكن ذلك عنى أيضاً أن كميّة المعلومات التي تتدفّق إلى أدمغة الناس في كل لحظة باتت هائلة وهذا يمنعهم في الكثير من الأحيان، لا فقط من هضم المعلومات، بل من التعرّف على القضايا المهمة وتكوين رأي واضح تجاهها. من هذه الناحية، تصبح المساواة في الصوت التي يتغنّى بها الإعلام الاجتماعي هي مشكلته الأساسيّة.

فالصوت المساوي يعني أن الفايسبوك صالح لترويج رأي المثقّف والجاهل بشكل متساوٍ، يساوي بين آراء الناشط وغير الناشط، المدافع عن الطاغية والثائر عليه، الكاتب وهاوي تجميع الاقتباسات، صاحب الخبرة وابن الـ 12 عام. قد يردّ أحدهم بالقول أن إعطاء صوت للجميع بشكل متساوٍ هو أمر إيجابي وديمقراطي وتقدّمي، لكن عندما ننتبه أن الصوت يُعطَى لصفحة فايسبوك تدعو لقتل مدوّن سعودي تماماً كما يُعطى لصفحة تدعو لحريات التعبير، علينا أن نعيد النظر بهذه الخلاصة.

ازدحام الأصوات قد لا يشكّل مشكلة لو كان هنالك عمليّة غربلة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافية لهذه الأصوات، لكن على الفايسبوك ومعظم أدوات الإعلام الاجتماعي، عملية الغربلة غير مرتبطة بجودة الفكرة بل بأنماط تكنولوجية وشعبيّة لا علاقة لها بأحقيّة القضايا الإنسانية.

ظهور الأخبار في الفايسبوك مثلاً مُبَرمَج لإعطاء المساحة الأكبر من الظهور الأكبر Visibility ، لا للأكثر خبرة في مجاله أو للقضية الأكثر إلحاحاً إنسانياً، بل للذي يمضي الوقت الأكبر على الموقع، وللمحتوى الذي يدفع المستخدمين الآخرين لقضاء وقت أكبر على الموقع بدورهم.

لذلك، إن شارك أحدهم فيديو شديد الأهمية لحادثة توثّق قمع حقوق إنسان مثلاً، ولم يتفاعل معها أحد، فهي تذهب إلى النسيان خلال ساعات معدودة أو حتى دقائق. أما إن شارك أحدهم خبر قضائه ثلاث ساعات في الحمّام بسبب وعكة صحيّة وتفاعل معه أصدقائه في لايكات وتعليقات، فهذا يعني أن الوعكة الصحيّة لهذا الصديق ستظهر في جدول الأخبار لدينا لأيّام فيما سيُنتسى الفيديو الذي يتحدّث عن حقوق الإنسان كأنه شبح عابر.

تراتبيّة ظهور الأخبار في الفايسبوك تعكس إلى حدّ كبير حالتنا الثقافية الجماعيّة؛ وحالتنا الثقافية تقول أن احتمال مشاهدة فيديو مضحك يظهر قطّة تلعب مع ذيلها هو أكبر من احتمال مشاهدة فيديو يظهر تظاهرة مطلبيّة مثلاً. وحتى وإن شاهدنا الفيديو الأخير، هنالك احتمال كبير أن نشارك المحتوى من دون أن نكترث حقاً بمحتواه او حتى من دون أن نطّلع عليه كما حدث مع فيديو “كوني” مؤخراً الذي تم تقديمه ومشاركته من قبل الآلاف على أنه قضيّة إنسانيّة واتضحّ فيما بعد أنه فيديو يروّج للتدخل العسكري الأميركي في أفريقيا.

من ناحية ثانية، إن فيض المعلومات في اتجاه واحد يشجّعنا في أحيان كثيرة على إغلاق عقولنا أمام أيّ احتمالات مفسّرة للحدث تنافي رأي سلطة المجموع على الفايسبوك، كما حصل أكثر من مرّة مع ناشطي مناهضة العنصرية في لبنان اللذين ثاروا عدّة مرّات على حوادث أو برامج تلفزيونية اتّضح فيما بعد أن وقائعها مختلفة.

 هذا النمط يتكرّر مع كل أنواع المعلومات على الفايسبوك؛ التعليقات والصور الشخصية، أنواع الطعام، القطط، الصور المضحكة، الفوتبول، النكات وغيرها، تحصل على تفاعل أكثر بكثير من أي شيء أكثر جدّية مثل القضايا السياسية والاجتماعية. وعند حصول استحقاقات ما، بعض المراهقين والمستخدمين المدمنين على الفايسبوك سيجدون أنفسهم فجأة تحوّلوا إلى مأثّرين أساسيين على الرأي العالم الالكتروني، بغضّ النظر عن معرفتهم وخبرتهم في القضايا السياسية والمدنية، مثلما حصل في أحيان كثيرة خلال “حملة إسقاط النظام الطائفي” في لبنان عام 2011.

في كلّ الأحوال، الكمّ الهائل من الصفحات والقضايا والمواد التي تبثّ على المواقع الاجتماعية مثل الفايسبوك 24 ساعة على 24 تؤدّي في ما تؤدّي إليه إلى تشتيت القضايا والآراء وتسطيح كل شيء. لا يمكن لأي إنسان أن يفهم أبعاد ووقائع عشرات القضايا الجديدة والآراء المختلفة كلّ شهر ويتفاعل معها من دون أن يقع فريسة السطحيّة. لذلك من السهل أن نرى ظاهرة قيام مئات الناشطين اليساريين ومناهضي الإمبريالية حول العالم بالمشاركة في نشر فيديو “كوني” من دون أن ينتبهوا إلى أنه يدعم التدخل العسكري الأميركي في دولة لا يعرفون موقعها على الخارطة.

خلال نقاش بين مدوّنين روس خلال العام الماضي، سأل أحدهم لماذا المواقع الالكترونية الروسية الرسمية لديها عدد هائل من البرامج الترفيهية مثل “برنامج النهود” الذي يعرضه التلفزيون الروسي أونلاين. وكان الجواب من أحد الناشطين بأن الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين “يريد للشباب الروسي الذي يمضي وقته أونلاين أن يقضيه متفرّجاً على النهود بدل أن يقرأ مواقع معارضة”. هذه الجملة تختصر في الواقع جزء كبير من واقع الإعلام الاجتماعي والفايسبوك تحديداً؛ معظم الوقت الذي يقضيه المتصفحون هناك يتفرّجون فيها على أمور ترفيهية تشبه “برنامج النهود” لدرجة كبيرة، الفايسبوك في نهاية المطاف هو موقع ترفيهي كبير. أما حين تدقّ ساعة الحديث عن القضايا الإنسانيّة، فما يحصل عادة هو إمّا فيضان معلوماتي يمنع معظم المستخدمين من التفكير باستقلاليّة أو تشتّت هائل في الآراء يقضي على فعاليّة أيّ قضيّة.

 * * *

الطاغية أيضاً يستخدم الفايسبوك

نقطة أخرى غالباً ما يتجاهلها متحمّسو الإعلام الاجتماعي وهي أن الطغاة وكل القوى التي تهدّد قضايانا الإنسانية تستخدم الفايسبوك بنجاح أيضاً. خلال الفترات السابقة، كان الإعلام الاجتماعي يقتصر على الناشطين والطلاب اللذين ينتمون للطبقة الوسطى ولم تكن الأنظمة والحكومات والشركات قد انتبهت بعد لأهميّة هذه الوسيلة. أمّا اليوم فالشركات والحكومات تستخدمه بنجاح أكبر من الأفراد في معظم الأحيان. وحكومات مثل حكوماتنا في العالم العربي تستخدمه لتحقيق هدفين رئيسيين:

– البروباغاندا لمصلحة النظام (أو على الأقل التشويش على المعلومات المنتشرة أونلاين ونشر الإشاعات والأخبار الخاطئة). ما يزيد بدوره مشكلة تشتيت الرأي العام التي تحدّثنا عنها آنفاً.

– المراقبة الأمنيّة (استعمال المواقع الاجتماعية لاكتشاف الشبكات الناشطة واعتقال الناشطين ومعرفة كافة المعلومات عنهم).

وقد رأينا الحكومتان الإيرانية والسورية تستخدمان الإعلام الاجتماعي بنجاح لتحقيق هذين الهدفين وقمع الثورات التغييرية فيهما بعد إغراق الإعلام الاجتماعي والفايسبوك بآلاف المتطوّعين والمحازبين والمخبرين.

_____________

غداً على مدوّنة نينار في نفس السلسلة: الجميع ناشط لكن لا أحد يحارب

_____________

2 comments

  1. التنبيهات: العيش كصورة: كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة « نينار
  2. لاديني · أفريل 15, 2012

    حسناً إن طبيعة فيسبوك لا تحتمل أخذه على محمل الجد..ولكنه أداة جيدة لقياس التوجه العام ومستوى العقليات…ولكن في جميع الأحوال فإن الأغلبية لا مكان لها في كل هذا…

أضف تعليق