نحو شكل سياسي جديد (3\3): من الدولة القمعيّة إلى المجتمعات التعاونيّة
(الحلقة الأول من “نحو شكل سياسي جديد: هل الدولة ضرورة” على هذا الرابط، الحلقة الثانية: “من هي العصابة الأكبر”، على هذا الرابط)
حين نتحدّث عن “إلغاء الدولة” غالباً ما يتخيّل القرّاء أن ذلك يعني تحوّل المجتمعات البشرية إلى غابة يقتات أبناؤها على لحم بعضهم بعضاً في ظلّ غياب أي هيئة تتولى تنظيم شؤونهم. هذا تصوّر غير بعيد عن الواقع حين نشاهد نشرات الأخبار هذه الأيام، لكنّه أيضاً نتاج الآلة الإعلامية للدولة التي أقنعتنا أن الناس هم وحوش لا يعرفون سوى التهام بعضهم بعضاً، وأن الجهاز الاكثر رهبة وعنفاً هو الضمانة لعدم حصول ذلك.
لهذا السبب، لا بد من التشديد أولاً على أن غياب الدولة لا يعني رفض التنظيم الاجتماعي أو رفض النظام بالمطلق، بل هو رفض احتكار الحقوق والسلطة من قبل هيئة مغلقة من الأشخاص، ورفض الإكراه والسلطوية.
هنا علينا أن نميّز بين إدراة المساحات المشتركة بين الناس كتنظيم الملاحة في الأنهار والمحاكم التي تفصل في النزاعات وأجسام الهندسة التي تسهر على سلامة المباني، وهي كلها أمور إيجابية وضرورية، وبين التسلّط والإستيلاء على هذه المساحات المشتركة عبر جهاز يدّعي أنه مصدر الحقوق.
المجتمع التعاوني الذي نقترحه كبديل للدولة يقوم على غياب الإكراه والقمع والسلطوية في العلاقات البشرية، لا على غياب التنظيم!
إلى ذلك، الدعوة لإلغاء الدولة ليست دعوة للعودة إلى الوراء أي إلى حالة المجتمعات البشرية ما قبل نشوء الدول، لأن العودة للوراء مستحيلة. هي دعوة للتقدّم إلى الأمام عبر إلغاء هذا الجهاز القمعي (وكل ما شابهه من أجهزة تسلّطية كالشركات العابرة للقارات والثقافة المعولمة) وإنضاج المجتمع البشري لدرجة يتخطّى فيها المطالبة بوجود جهاز قمعي خوفاً من تحوّله لغابة!
النظريات المتصارعة في الفكر السياسي غالباً ما تصل إلى نفس الخلاصة حين تتحدّث عن مصير العالم: النهاية الطبيعية للإيمان بالدولة على الصعيد الوطني هي الإيمان بضرورة التطوّر نحو دولة واحدة وحكومة عالمية واحدة تسيطر على الكوكب وتنظّمه وفقاً لإرادتها من شماله إلى جنوبه.
طبعاً، لا داعي للحديث عن خطورة ذلك الطرح وما يعنيه من تحوّل شامل نحو مجتمعات هرمية قمعية قائمة على المراقبة والتحكّم والقمع، لكننا نريد أن نشير إلى أن البشرية ليست بحاجة حقاً لحلّ سحري، فالحلّ كانت متواجداً لمئات آلاف السنوات حيث تعايشت مع بعضها البعض ومع الطبيعة بسلام نسبي حين كانت منظّمة ضمن قبائل مختلفة.
هذا لا يعني أن البشرية قادرة على العودة للقبائل القديمة، لكننا نعتقد ونؤمن أن المجتمعات البشرية قادرة على التحوّل لمجتمعات تعاونيّة، ناضجة، تقوم على معادلة “الحقوق عالمية (كالعمل والتنقل والسكن والسلامة والمعرفة) والحياة محليّة”.
هذه معادلة غير أيدولوجية وغير سلطوية، يمكن فيها للناس في وقت واحد أن ينعموا بنفس الحقوق أينما ذهبوا ولأي جنسيّة انتموا، وأن ينظّموا حياتهم بمفردهم بشكل ديمقراطي مباشر في قريتهم\بلدتهم\مدينتهم عبر لجان محليّة منتخبة من دون بورصات عالمية تقرّر مصيرهم من وراء البحار ومن دون رؤساء جمهورية ووزراء ونواب يقرّرون عنهم تفاصيل حياتهم اليوميّة.
حتى وإن افترضنا أن الحضارة العالمية الحالية ستستمرّ، يمكن للمهام الإدارية التنظيمية على نطاق إقليمي أو دولي أن يتم تنظيمها عبر لجان محليّة ووطنية وحتّى عالمية من المتخصصين والعارفين بشؤون مجالهم التقني، تكون مهمتها السهر على تناغم الأمور ولا تجعل نفسها مصدراً لحقوق الإنسان وللرقابة السياسية.
الأحلام الكبيرة التي تتشاركها البشرية كالمغامرات العلميّة والفنية والهندسيّة والتقنية والفضائية يمكن تنظيمها بنفس الطريقة على أساس اختياري، محلّي أو عالمي حين تصل البشرية لمرحلة من النضج الكافي لاختيار مغامراتها بحكمة.
أما الخيارات التي تستوجب قراراً على مستوى عالمي فيمكن اتخاذها عبر هيئات منتخبة أقرب للمؤتمرات منها للسلطات الدائمة وتكون محدودة المهام والصلاحيات والولاية الزمنية. أما مشكلة الموارد فستكون في أدنى مستوياتها إن تعلّم كل مجتمع محلّي أن يعيش بطريقة مستدامة متناسبة مع قدرة بيئته الطبيعية (وهذا أمر فعله البشر لمئات آلاف السنين قبل الفائض الهائل للطاقة الذي وفّره اكتشاف النفط). يمكن في هذه الحالة الاستفادة من قدرتنا التكنولوجية لتسهيل حياتنا الجماعية بدل أن تكون أداة يستعملها الأقوى للسيطرة على الآخرين، ويمكن الاستفادة من الانترنت مثلاً لتبادل المعرفة والخبرات ومساعدة الناس على البقاء في قراها بدل االتحوّل إلى لاجئين مهمّشين في المدن.
لتحقيق مرحلة انتقالية نحو تلك الحالة، يجب سحب السلطة تدريجياً من الدولة والشركات والبورصات وإعادتها للناس Read More