ولادة الشرّ المطلق

بافوميت، أحد رموز الحكمة الباطنية القديمة، حوّلته الأديان الإبراهيمية إلى رمز للشيطان والشر المطلق

سلسلة جروح كوزمولوجية

الجزء السابع: ولادة الشرّ المطلق

(يمكن العودة إلى الفهرس لقراءة الأجزاء السابقة على هذا الرابط)

* * *

من مظاهر إفساد علاقتنا مع المقدّس أيضاً وأيضاً، هو قيام الأديان التوحيدية باختراع الشرّ الكوني المطلق وتقديمه على أنّه جزء أساسي ولا يتجزأ من الوجود. اسمه؟ الشيطان.

الثنائية الأولى للخيّر (النور) والشرّ (الظلمة) لم تكن فطرة الإنسان كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كانت أيدولوجية الدين التوحيدي الأوّل في التاريخ: الزرادشتية. معظم الشعوب القديمة، خاصة في العصر النيوليتي، كانت تعترف بوجود الشرّ، وكانت تؤمن بأرواح وقوى كثيرة لا تنوي خيراً للبشر، لكن بنية الكون بالنسبة لها لم تكن قائمة على ثنائية تصارع الخيّر والشرّ بل على وحدة الوجود بكلّ تلاوينه وحالاته. الحكمة القديمة للإنسان اعتبرت أن الشرّ هو مركّب إنساني نسبي ينشأ في سياق العلاقات بين الناس أنفسها، كما بين الناس وقوى الطبيعة، ولم تراه على أنه حقيقة كونية مطلقة يحكمها شيطان ذا قدرة رهيبة. مفهوم الشرّ المطلق لم يكن موجوداً لديها، كانت تفهم الشرّ في سياقه الواقعي وكانت تعرف أنه بالنسبة للطبيعة، بالنسبة للكون، لا يوجد شرّ مطلق بالمعنى الذي نعطيه له اليوم. على سبيل المثال، إن كان هنالك نمر جائع يطارد غزالاً، وإنسان جائع يطارد النمر والغزال معاً، أين الشرّ المطلق في هذه المعادلة؟ هل الشرّ هو أن يأكل النمر الغزال، أم أن يحتضر النمر جوعاً، أم أن يقتل الإنسان الاثنين أم أن يحتضر جوعاً كي لا يقتل أي مخلوق آخر؟ الشرّ في هذه المعادلة نسبي ويختلف بالنسبة لكل طرف في هذه المعادلة.

الفيلسوف اليوناني النيو-أفلاطوني سالوستيوس، يعبّر عن نظرة القدماء للشرّ على أنه غير مطلق، وغير كوني، يقول: “إن الآلهة، كونها خيّرة، ومسؤولة عن كل الأمور في الكون، يعني أنه لا يوجد هنالك شرّ كوني (أو بنيوي)؛ فكما الظلمة ليست موجودة بذاتها بل هي تأتي فقط بغياب الضوء، يأتي الشرّ فقط حين يغيب الخير (…) لا يوجد شرّ كوني في العالم. في نشاطات الإنسان فقط يظهر الشرّ”. (سالوستيوس، حول الآلهة والكون، مترجم من النصّ الإنكليزي).

إن الإيمان بعدم وجود شرّ كوني يعني أن الإنسان نفسه هو الذي يتحمّل مسؤولية شروره لا قوّة ماورائية أعظم منه اسمها “الشيطان”، وهو بالتالي المسؤول عن دفع ثمن أخطائه وإصلاح نتائجها والتعامل معها بالطريقة الصعبة على أرض الواقع. وفي الحقيقة إن الإيمان بـ”الشيطان” يجرّد الآخرين من جزء من إنسانيتهم. كبشر، نحن نرتكب الأخطاء والزلّات ونحاول التعلّم منها وإصلاحها وتجنّبها، هذا جزء من طبيعتنا. لكننا ننزع هذا الجزء من إنسانيتنا حين نؤمن بأن أخطائنا هي “رجس من عمل الشيطان”، هذا تنصّل ورمي للمسؤولية وجلد للذات ولا يساعدنا أبداً على فهم ضعفنا البشري والتعامل معه.

"ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما" ، حديث منسوب للنبي محمد، وهو من الأمثلة القليلة على ارتباط مفهوم الشرّ الإبراهيمي بمفاهيم أرضية لا تمتّ للسماء بصلة

خلق مفهوم “الشرّ الكوني” المتمثّل بالشيطان كان ضربة قوية لعلاقتنا مع العالم الروحي لأنه عنى أن الكون يحوي قوّة شرّ وقذارة تريد للإنسان كل البؤس والمعاناة والتعاسة. “الشرّ الكوني” كان ضربة أيضاً لعلاقة الإنسان مع كل العالم المادي من حوله وصولاً إلى عقله وجسده نفسه. فهذا المفهوم يعني أن العالم المادي هو ملعب الشيطان الذي يمارس فيه نفوذه وشروره وإغراءاته أينما التفتنا.

مفهوم الشرّ المطلق لم يفرض نفسه على رؤيتنا الكوزمولوجية فحسب، بل على حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والروحية أيضاً. ما يندرج ضمن إطار “الشرّ” توسّع ليشمل في أحيان كثيرة العقل، الجسد، والآخر المختلف. هذا المفهوم ثنائي بطبيعته (خير\شر)، ولأنه مطلق فهو يقوم على الأضداد ويغذّي الصراع الأبدي بينها لأن جوهر المفاهيم المطلقة هو أن ينتصر أحد المفهومين انتصاراً نهائياً على الآخر.

وهنا يتضح لنا جزء آخر من المشكلة، هي أن مفهوم الشرّ المطلق هو مفهوم مسبّب ومغذّي للنزاعات بطبيعته. ولادة الشرّ الكوني وثنائية الخير \ الشرّ أعلنت بداية عالم الثنائيات المتصارعة التي حكمت حياتنا ونظرتنا للوجود لقرون وطحنت إنسانيتنا تحتها. الثنائيات المنبثقة من ثنائية الخير والشرّ شوّهت نظرتنا لكلّ شيء وفرضت بالتالي صراعاتها علينا: نجدها في ثنائية العالم المادّي “القذر” والعالم الروحي “النقي”، في ثنائية الأرض والسماء، الإنسان والطبيعة، الإيمان والعقل، الحلال والحرام، المقدّس والمدنّس، الموت والحياة، العلم والدين، دار الحرب ودار السلم، المؤمن والكافر، الـ”نحن” والـ”هم”… ثنائيات تعيش معارك أزلية، الانتصار فيها مستحيل، ولا خروج منها سوى بإفناء أنفسنا أو إفناء الأخرين… أو تجاوز مفهوم الشرّ المطلق!

اختراع الشرّ الكوني أفقدنا الصلة مع الكثير من الأمور التي تشكّل جزءاً من طبيعتنا، وجعلنا نعادي قسراً أجسادنا وعقولنا وجيراننا وأرضنا وحريتنا وسمائنا لأنه أقنعنا أننا أمام خيارين لا ثالث لهما: أو ندمّر أغلى الأجزاء فينا على هذه الأرض لكي نربح جنّة موعودة هناك، أو نواجه نار الله في العالم الثاني وخناجر أتباعه في هذا العالم.

المقدّس الحقيقي لا مكان فيه لشرّ مطلق. كيف يمكن أن نتصالح مع المقدّس إن لم نؤمن أنه، وبكامله، خيّر وجميل؟

8 comments

  1. التنبيهات: جروح تركت ندباتها على جبين الإنسانية: نحو التصالح مع الذات والأرض والسماء « نينار
  2. C.Lina · ماي 23, 2011

    سعيدة أدون،
    كنت قول بنطر لتخلّص السلسلة، بس هيدي مش ملاحظة على المحتوى.. لكن على الأسلوب.
    عم ضلّ حس التذبذب، وبيسببلي الضيق بالقراءة، في فوضى بالكتابة. ملاحظها؟
    فوضى كلمة كبيرة شوي، لنجرّب شي أكثر دقة.. بالسلسلة في تفاوت، في قطع مُركّزة لامعة، وفي مقاطع بتمرق سردية أقرب للدردشة، هلق إيه طبعاً أكيد ما فيه يكون مقال بأكمله عبارة عن ملخّصات مركّزة لامعة، بس بمحلات عم بيكون الريتم ممل. (ممل أيضاً كلمة كبيرة، ببقا بجرّب لاقي كلمة أكثر دقة).

    هوّي تعليق بايخ بعد سبع مقالات من السلسلة، ويمكن يكون بسبب القراءة المتقطّعة.. أو يكون معي حق وما يكون بسبب شي، بهنّيك على المحتوى.. وأبدي إعجابي، بتعرف هالقصص مش مفيد التكرار.

    • Adon · ماي 24, 2011

      سعيدة كارولينا،
      مفش فوضى بالكتابة لكن كل مقال عم يعالج موضوع مختلف وبالتالي المقاربة والوتيرة بدها تكون مختلفة، يمكن لمن تقري كل السلسلة ورا بعضها بتتوضح الصورة أكتر.
      بس فيه تفاوت بالأسلوب ايه وأكيد فيه مقاطع أقرب للدردشة، وهالشي وضحته من الأوّل، المقطع التالي هوي من المقدّمة:
      “إن النصّ المكتوب للسلسلة مشتقّ (وأحياناً منقول عن) أحاديث مكثّفة أجريناها مع عدد من الأصدقاء طوال العامين الماضين، لذلك قد يشعر القارىء في بعض المواضع أن النصّ هو أقرب للكلام المحكي منه للنصوص المكتوبة، مع القليل من التكرار في بعض الأماكن.”

  3. karem · ماي 24, 2011

    طوني،
    بالفعل ان تلك المقاربة تشكّل “هرطقة” فكرية لأهل الكتب السماوية الذين ما فهموا منهم الا الظاهر….

    على أمل رؤية تلك السلسلة منشورة في كتاب قريباً.
    الى اللقاء في بيروت

    • Adon · ماي 25, 2011

      أهلاً بالزميل المهرطق 😀
      مشتاقين معلّم كارم لمن تكون ببيروت زتّلنا خبر لنلتقي!
      سلامي

  4. التنبيهات: “سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض” « نينار
  5. التنبيهات: معرفة الذات، لا إنكارها « نينار
  6. Abeer Khshiboon · فيفري 28, 2013

    بحبّ هاي المقالة كتير… اليوم تذكّرتها وحسّيت إني بحاجة أقراها، وساعدتني 🙂

أضف تعليق