لماذا زايتجايست ليست حركة تغييرية

نموذج للمدينة الفاضلة التي يحكمها الحاسوب المركزي في المنتصف، في أدبيات واقتراحات حركة زايتجايست

نموذج للمدينة الفاضلة التي يحكمها الحاسوب المركزي في المنتصف، المقترحة في أدبيات وخطط حركة زايتجايست

*

طوني صغبيني

*

في العام 2007، اشتعل عالم الانترنت بفيلم جديد يتحدّث عن مؤامرات دينية ومالية وسياسيّة مظلمة للسيطرة على العالم. الفيلم اسمه زايتجايست وتضمّن مزيجاً من المعلومات التاريخية الصحيحة والمعلومات الخاطئة، بعض نظريات المؤامرة، أفكار ساذجة حول الاقتصاد السياسي، وأفكار صحيحة نسبياً حول الاقتصاد المالي.

وصل الفيلم إلى الملايين عبر الانترنت، وكان بالنسبة للعديد من أبناء جيلنا الشاب مدخلهم نحو ادراك وجود مشكلة في هذا العالم. بعد تحوّل الفيلم إلى ظاهرة، التقى مخرجه الأميركي بيتر جوزف، مع باحث علمي مغمور يبلغ 90 عاماً من العمر يُدعى جاك فريسكو، وهو مهووس قديم بـ”تطبيق أحدث تكنولوجيا الكومبيوتر لتنظيم الشؤون البشرية“.

اجتماع الاثنين أدّى إلى إطلاق حركة تدعو لعالم مختلف وترتكز بشكل أساسي على طروحات فريسكو.

نجحت الحركة التي أطلق عليها اسم “زايتجايست” (أي روح العصر) في اجتذاب آلاف المتطوّعين والمتحمّسين خلال السنوات الأخيرة. الحركة تزعم على موقعها الرسمي أنه لديها أكثر من 350 ألف عضو، وأكثر من 120 فرع فاعل في عشرات الدول حول العالم. هنالك الكثير من الناشطين الشباب يتحمّسون لها ومنهم في العالم العربي.

للوهلة الأولى، قد يبدو للناظر من بعيد أن حركة زايتجايست هي التعبير الحديث الأكثر اكتمالاً عن روح العصر وقضيّة التغيير. رغم ذلك، العديد من الراديكاليين، ومنهم نحن، يرفضون أخذ الحركة على محمل الجدّ، بل يرونها تخدم السلطات وقوى الأمر الواقع بشكل مباشر. كيف يمكن لحركة تدعو لتغيير البنية العالمية بشكل شامل أن تُتهم من قبل من يشاركوها الهدف نفسه بخدمة السلطات وإضعاف حركة التغيير الحقيقية؟ هذا المقال يهدف لشرح ذلك.

 

*

أيدولوجية زايتجايست باختصار

 الحركة تتفق مع التيارات الراديكالية حول أساس المشكلة حيث تعتبر أن أصل معضلات “كالفقر، الفساد، الانهيار، التشرّد، الحرب، المجاعة، وما يشابهها من عوارض هو نتيجة منظومة اجتماعية عفى عليها الزمن”.

كما الحركات الراديكالية الأخرى أيضاً، لا تؤمن الحركة بالإصلاح المؤقت لأن “الهدف النهائي هو إقامة نموذج اقتصادي-اجتماعي جديد يرتكز على إدارة وتصنيع وتوزيع مسؤول للموارد عبر ما يُعتبر المنهج العلمي في التفكير بالمشاكل وإيجاد حلول مناسبة لها”.

حتى الآن، يبدو أن الحركة تتفق مع التيارات الراديكالية التاريخية كالماركسية والأنركية وحركات الشعوب الأصلية والمناهضة للحضارة التي ترفض بنسب متفاوتة الرأسمالية والدولة والبُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بأكملها – وهذا ما يجعل من الحركة جذّابة للعديد من الراديكاليين الذين قد يرون فيها فرصة لتحقيق ما فشلت التيارات اليسارية السابقة في تحقيقه.

حين ننظر أبعد من هذا الشعار الأوّلي، يصبح طرح الحركة غامضاً ومشوشاً، وعلى المرء أن يقرأ مئات الصفحات من أدبيات الحركة لكي يقف على حقيقة المجتمع الذي تطمح له والاستراتيجية التي تقترحها لتحقيقه.

هدف الحركة وجوهر طرحها هو إقامة نموذج اقتصادي غامض يُدعى “اقتصاد الموارد”. اقتصاد الموارد هو وفقاً لزايتجايست اقتصاد “يقوم على أخذ مقاربة تقنية مباشرة للتنظيم الاجتماعي بدلاً عن المقاربة المالية أو حتى السياسية”. لكن ماذا يعني ذلك؟

تقول الحركة بأنه  يعني”تحديث آليات عمل المجتمع إلى أكثر الطرق المتطورة والمثبتة التي يقدّمها العلم، وترك الآثار السيئة والموانع السابقة التي يخلقها نظامنا المالي الحالي كالتبادل المالي، الأرباح، الشركات، وغيرها من العناصر البنيوية والمعنوية”.

الشرح لا يزال غامضاً ومصاغ بتعابير يتفق عليها الجميع (ومنهم الرأسماليون أنفسهم)، وهو غامض بالفعل في كلّ مكان تتحدّث فيه الحركة عن اقتصاد الموارد.

جوهر اقتصاد الموارد على ما يبدو، هو أنه يقوم على إلغاء المال من الاقتصاد كوسيط للتبادل – حيث تعتبر الحركة أن المال هو مصدر معظم الشرور الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها عالمنا. لكن ما هي آليات إلغاء المال وكيف سيتم تحقيق ذلك؟ لا تعين مئات الصفحات التي كتبتها الحركة عن الموضوع على شرح ذلك بوضوح، لكن هنالك وجه آخر للمسألة.

الوجه الآخر لاقتصاد الموارد هو في أدبيات الحركة المكننة المعلوماتية الشاملة. الحركة تدعو لتطبيق منظومة تكنولوجية معلوماتية شاملة على كامل الكوكب، تقوم بمراقبة الموارد الطبيعية وتنظيم عملية انتاج وتوزيع السلع والموارد الطبيعية على سكان الكوكب وتنظيم الغذاء، التنقل، الترفيه…ألخ.

المجتمع المثالي الذي تتخيّله حركة زايتجايست هو مجتمع ينظّمه ويحكمه حاسوب كلّي القدرة والمعرفة يقوم بتوزيع خيرات الأرض على البشر بشكل عادل في عالم من دون مال، من دون سجون، من دون حروب، من دون فقر، ومن دون سياسيين وحكومات وجيوش. بعد هذه النقطة، تكمل الحركة طيرانها فوق حدود الواقع وتطرح على كل مؤمن بالتغيير معضلات لا يمكن تجاهلها.

جاك فريسكو

جاك فريسكو

بيتر جوزف. يجب الإشارة إلى أن بيتر جوزف وجاك فريسكو انفصلا في أبريل 2011 وانشقّت الحركة إلى قسمين.

بيتر جوزف.
يجب الإشارة إلى أن بيتر جوزف وجاك فريسكو انفصلا في أبريل 2011 وانشقّت الحركة إلى قسمين.

*

ديكتاتورية الحاسوب الأكبر

المشكلة الأولى في طرح زايتجايست هي أن المجتمع الذي تطرحه الحركة هو مجتمع ديكتاتورية الحاسوب، تتولى فيه الآلات مهام تنظيم المجتمع البشري واتخاذ القرارات المصيرية فيه – أو تقوم بهذا الدور مجموعة من العلماء بانتظار وصول الحاسوب الكلي القدرة إلى السلطة. من يعتقد أن في الأمر مبالغة ما عليه سوى أن يقرأ ما يكفي من أدبيات الحركة.

عند الإجابة على سؤال “ما هي الملامح الرئيسية لاقتصاد الموارد – الحلّ الذي تقترحه الحركة؟”، تحدّد الحركة ستة عناصر:

1) غياب المال والسوق.

2) المكننة الشاملة للعمل (أن تقوم الآلات بكل العمل).

3) التوحيد التكنولوجي للأرض عبر مقاربة المنظومات.

4) الوصول للملكية.

5) منظومات انتاج مستقلّة للمدن والمناطق.

6) العلم كمنهج للحكم.

زايتجايست تصف هذه المنظومة الجديدة بكلمات كهذه:

“الخطوة الأولى هي استطلاع شامل لجميع الموارد الطبيعية على الكوكب. ثم يجب وضع احصاءات الاستهلاك، مراقبة نسب نفاذ الموارد، والخروج بنسب التوزيع بشكل منطقي…ألخ. بكلمات أخرى، مقاربة منظوماتيّة كاملة لإدارة موارد الأرض، وإدارة انتاجها وتوزيعها، مع وضع هدف الفعاليّة القصوى، المحافظة على الموارد، والاستدامة. عند معرفة الخصائص الرياضية المرتكزة على كل المعلومات المتاحة في هذا الوقت، ودمجها مع آخر التكنولوجيات الحديثة للزمن، أطر العمل الاجتماعية للقطاع الصناعي تصبح واضحة بذاتها، ويمكن التوصل للقرارات عبر الحوسبة المعلوماتية لا عبر الرأي البشري. هذه المرحلة التي يصبح فيها الذكاء الاصطناعي أداة مهمّة للحكم (السياسي والاجتماعي)، لأنه فقط القدرة الهائلة للكمبيوترات على الحوسبة والبرمجة تمكّنها من القيام بالضبط الاستراتيجي لأمور كهذه بشكل فعّال ومباشر”.

العناصر الستة المذكورة أعلاه تبدو للوهلة الأولى عادية، وحتى غامضة بعض الشيء – والشرح الذي يليها في أدبيات الحركة ليس أقل غموضاً. لكن المسألة الأهم بالنسبة للراديكاليين – وخصوصاً اللاسلطويين منهم، هي أن ما يوصف هنا هو في جوهره ديكتاتورية الحاسوب الأكبر.

غياب المال والسوق يعني أنه هنالك جهة مركزية عالمية تنظّم التبادلات الاقتصادية والانتاج والتوزيع بين مختلف الأطراف، وهذه الجهة بالنسبة للحركة هي الحاسوب (الأخ) الأكبر. كذلك الأمر بالنسبة للمكننة الشاملة للعمل، إذ إن إسناد الآلات مهمّة انتاج وتوزيع كل شيء نستخدمه على وجه الكوكب يعني أنه هنالك جهة مركزية تنظّم وتقرّر وتشغّل وتصنّع وتصون هذه الآلات. وهذه الفكرة يتم تأكيدها مجدداً عند حديثها عن التوحيد التكنولوجي للأرض ببرامج معلوماتية واحدة مركزية تقيس الموارد وتحدّد مستويات الانتاج وتقرّر التوزيع العادل للثروات.

يتم تأكيد النقطة نفسها مجدداً عند الحديث عن العلم كمنهج للحكم في هذه اليوتوبيا الجديدة. بالنسبة للحركة، الآراء البشرية معرّضة للخطأ والصواب وتتأثر بالكثير من العوامل غير العلمية، أما المنهج العلمي فهو واضح ولا يوجد فيه الكثير من المجال للخطأ. في الديكتاتورية المعلوماتية الجديدة التي تقترحها زايتجايست إذاً، لا يوجد حتى مساحة للتشكيك بقرار الحاسوب، فقراره مرتكز على العلم الذي يرفرف عالياً فوق محدوديّة العقل والقلب البشري.

وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك إصرار الحركة على أنه لا مكان للحكومات السياسيّة في عالمها الجديد لأن الحواسيب ستكتسب القدرة على اتخاذ القرارات بناء على معادلات رياضية، يصبح الأمر واضحاً: إنها ديكتاتورية حاسوب غير منتخب وغير قابل للمحاسبة ولا يمكن الإطاحة به.

المشكلة أن الحركة لم تخبرنا أي معادلة رياضية سيستعملها الحاسوب حين يقرّر أنه يجب قتل أو سجن شخص ما؟ ومن هو الذي سيكتب هذه المعادلة ويبرمجها في الحاسوب؟ الحركة طبعاً تتجنّب الإجابة على هكذا أسئلة.

اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يتم استبدالها في طرح زايتجايست ببرامج مركزية للحاسوب العالمي، بنخبة من العلماء تعتنق المنهج العلمي كأيدولوجية وتحدّد للبشرية كيف يجب عليها أن تحيا – النتيجة في الحالتان هي نفسها: هنالك جهة تحدّد وتقرّر وتقولب حياة الناس بحجّة امتلاكها منهج وعقيدة تخوّلها معرفة مصلحة الناس أكثر من الناس أنفسهم.

لو كان ستالين حياً لدمعت عيناه فخراً بطرح كهذا. لحسن حظّ اللاسلطويين الذي يشكّل هكذا سيناريو كابوسهم الأسوأ، الحركة لا تملك خطّة عمل واضحة لتحقيق هذه اليوتوبيا، وهذه المعضلة الثانية في طرحها.

*

لا يوجد طريق إلى الجنّة

حركة زايتجايست تعد الناس بعالم خالٍ من الحروب والفقر والجوع والفساد، وتقول أن هذا العالم سيكون قائماً على اقتصاد موارد ينظّمه الحاسوب الأكبر، لكنها لم تخبرنا كيف يمكن لنا تحقيق هذا الهدف.

أدبيات الحركة خالية بشكل شبه تام من أيّ خطة من هذا النوع. رغم أنها تصف العالم الذي تحلم به بتعابير دقيقة وتفصيلية، إلا أن خطّة العمل – التي من المفترض أن تكون تفصيلية وواضحة، هي غائبة بالكامل.

ما هي خطّة العمل التي ستأخذنا من عالم ينوء تحت وطأة مشاكله، إلى عالم مثالي يبدو كأنه مصنوع من أفلام الخيال العلمي؟ الحركة بالكاد تجيب على ذلك، وإجاباتها القليلة عليها غير مقنعة.

الحركة تزعم على موقعها الالكتروني وصفحاتها أنها تمتلك خطّة عمل، لكن لا أحد يعلم تحديداً ما هي عند السؤال عنها. هنالك إجابات غامضة عن “ثورة في الوعي البشري” ستكون وحدها كفيلة بتحقيق التغييرات المزعومة.

زايتجايست لا تؤمن بالسياسة التقليدية من انتخابات وتظاهرات وما شابه (ونحن نشترك معها في ذلك)، وهي لا تؤمن بالثورات العنيفة واللاعنفية على السواء، وهي لا تؤمن بإقامة البدائل بشكل مباشر على الأرض لأن ما تقترحه يتطلب تطبيقه على كامل الكوكب في وقت واحد، ولا تؤمن بالمواجهة المباشرة مع السلطة. ماذا يبقى إذاً من أساليب للنشاط؟ إن كانت لا تريد التغيير عبر الانتخاب ولا عبر الثورة ولا عبر العمل المباشر؟ لا يبقى سوى الكلام – وهذا بالفعل ما برعت الحركة به لسنوات عبر وثائقيات وفيديو وكتب ومواقع وستاتوسات لا تنتهي.

هنالك اعتقاد في زايتجايست تعبّر عنه أدبيات الحركة وأفلامها بأن النظام الرأسمالي “قائم كلياً على معتقدات وعلى ثقتنا نحن بآلياته”، وبالتالي فإن تغيير المعتقدات كافٍ لتحقيق انهيار النظام – كأنه قائم فقط في رؤوس الناس، لا على أرض الواقع المادّي.

صحيح أن السيستيم المهيمن يقوم على رؤيا شاملة يؤمن بها الأفراد – وقد تناولنا هذا الموضوع على مدوّنتنا سابقاً – إلا أن القول أنه قائم بالكامل على الإيمان به وأن تغيير المعتقدات كافٍ لإزالته فهو أبعد ما يكون عن الواقعية والعلميّة.

السيستيم المهيمن قائم على الواقع المادّي: هنالك مؤسسات ودبابات وخزنات حديدية ورجال شرطة يفصلون بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئاً، وهذه المؤسسات والدبابات والخزنات والبنادق غير موجودة في رؤوس الفقراء، بل على أرض الواقع.

صحيح أيضاً أن تغيير قيم الأفراد والجماعات هو الخطوة الأولى للتأثير على الواقع المادي – فالخطوة الأولى في التحرّر من العبودية هي القدرة على رؤية السلاسل الموضوعة حول عنقنا – لكنها الخطوة الأولى فقط، وكل من يقول أنها كافية لإسقاط المنظومة بأكملها هو إمّا ساذج، إمّا السلطة. وفي المقطع التالي سنشرح السبب.

*

غلاف فيلم زايتجايست الأخير: المضي قدماً

غلاف فيلم زايتجايست الأخير: المضي قدماً

هل يمكن تغيير العالم من دون مواجهة سلطات الأمر الواقع؟

تعرّف زايتجايست نفسها بأنها “حركة تدعو للاستدامة وتقوم بالنشاط الاجتماعي ونشاطات توعية عبر شبكة من الفروع الدولية والإقليمية، الفرق، والفعاليات السنوية، والإعلام والعمل الخيري”.

محاولة إقامة نظام عالمي جديد باستعمال “نشاطات التوعية والإعلام والعمل الخيري” في وجه السلطات وقوى الأمر الواقع هو كمحاولة الانتصار في معركة عسكرية في وجه الدبابات والجنود باستعمال قفّازات الملاكمة. هكذا تعريف ومستوى نشاط للحركة يناسب جمعيّة مدنية بيئية تعمل على إقامة طرق جديدة للدراجات الهوائية في المدينة، لا حركة تضم مئات الآلاف وتسعى لإلغاء الحكومات وإنهاء الرأسمالية وإحالة الجيوش والمؤسسات الدينية إلى التقاعد.

الحركة تقول في فيلم “زايتجايست المضي قدماً” أن “هذه المجموعة (في السلطة) سوف تحاول كل ما يمكن فعله للبقاء في السلطة، وهذا ما يجب عليك أن تبقيه في ذهنك. سيستعملون الجيوش والبحرية والكذب وكل شيء لديهم ليبقوا في السلطة. لن يستسلموا ببساطة لأنهم لا يعرفون نظاماً آخر يعزّز نوعهم”.

هذه هي فعلاً الحقيقة، فالطبقة الحاكمة وقفت ضد التغيير الاجتماعي والسياسي واستعملت العنف والمال والدين والترفيه لقمع الثورات ومحاولات التغيير في كافة المراحل التاريخية. معظم الحركات التغييرية في التاريخ كانت دموية لأن الطبقة الحاكمة نادراً ما تقبل التخلّي عن امتيازاتها طوعاً.

لكن يبدو أن حركة زايتجايست نفسها لا تؤمن بعبارتها هذه لأن أسلوب العمل الذي تقترحه وغياب أي إشارة في أدبياتها إلى ردّ الفعل المرتقب من السلطات وكيفية التعامل معه يشير بوضوح إلى ذلك.

المشكلة أكبر من ذلك أيضاً: الحركة تعتبر أنه لا يوجد ضرورة للمواجهة مع السلطات وتدعو إلى تجنّب ذلك مستخدمة تبريرات شتّى. تارة تقول الحركة أن بروز نظام جديد سيجعل من النظام القديم عقيماً والناس ستتخلى عنه بسرعة، وتارة تعتبر أن ثورة الوعي كفيلة وحدها بإحداث التغيير، وتارة تعتبر أن المواجهة مع السلطات أمر لا نفع له على الإطلاق كون المشكلة هي مشكلة قيم ومعتقدات. أقرب ما تمتلكه الحركة من رؤيا لكيفية حصول الانتقال إلى المجتمع الجديد لا يتضمّن أي نوع من الصراع مع السلطات الحالية، حيث تقول على موقعها:

“أطروحة الحركة هي أن الضغط الناشط والتعليمي الذي سيتم توليده، مترافقاً مع الفشل المستمر للنظام الحالي، سوف  يكبح ويتجاوز المؤسسات السياسية، التجارية والوطنية الحالية بشكل مباشر ويفضح العيوب الكامنة فيها ويقدّم حلول لها. الهدف الانتقالي عندها، حين يتم اكتساب حضور وقدرة ضغط عالمية كهذه، هو تطبيق نموذج اقتصادي يتبع المبادىء العلمية فيما يتعلّق بالعوامل التقنية التي تتيح الخير البشري والمسؤولية الصحية والبيئية لأجيال قادمة”.

الطرح يشير إلى قصور في فهم ما يحدث للمجتمعات التي تعاني من انهيارات تاريخية ويوحي كأن إقامة نظام عالمي جديد سيتم بطريقة اختيارية من دون صراع ومواجهات ومشاكل – كأن السلطات السياسية والنخب الاقتصادية والشركات والمؤسسات الأمنيّة والعسكرية وكل القوى التي تربح المال والسلطة والنفوذ من استمرار الأمر الواقع سوف تقرّر فجأة التخلّي عن سلطاتها وإحراق أموالها وتعطيل دباباتها وكاميراتها المراقبة والتحوّل إلى نسّاك متواضعين في البرية، تاركين المجال لمخرج سينمائي لإقامة يوتوبيا شاملة تحكم الكوكب بدلاً عنهم.

أي حركة يمكن أن تفكّر أن هكذا احتمال موجود على أرض الواقع هي حركة لم تدرس التاريخ ولا تعرف شيئاً عن العالم الحقيقي.

حتى بالنسبة للمفكّر اليساري المعتدل نعّوم تشومسكي، حركة زايتجايست هي تهديد لحركة التغيير لا للسلطة، يقول تشومسكي في إيميل حول رأيه بحركة زايتجايست:

“أنا لا اعتبر أن حركة زايتجايست هي حركة ناشطة. بالعكس، هي تبدو بالنسبة لي حركة سلبيّة مضلّلة بعناوين جذّابة، لكنها تنهار عند الدراسة. منها هي فكرة أنه يجب علينا “وقف دعم السيستيم” و”عدم محاربته”، لأن الهدف يجب أن يكون السعي وراء التغيير وتجاوزه فحسب. هذا يعني أنه يجب علينا أن ننسحب إلى السلبيّة. لا شيء ترحّب به السلطة أكثر من ذلك. مشاعري هي أنه مهما كانت نوايا قادة الحركة والمشاركون بها صادقة، الحركة هي مضلّلة بشكل جدّي. هي لا تقود نحو التغيير بل تهدّده عبر تشجيع السلبيّة والانسحاب من المواجهة، وتقدّم شعور زائف أنه هنالك بديل حقيقي يتم اقتراحه، لكن بتعابير غامضة جداً ومنفصلة عن الواقع لدرجة تجعل البديل في الحقيقة خالياً من أي معنى”.

على أرض الواقع بعيداً عن المثاليات، السيستيم الحاكم هو سجن، والطبقة الحاكمة تستفيد من السجناء لتحصيل الثروات والسلطة وإرضاء الجنون، وهنالك حرّاس لهذا السجن مهمّتهم الحؤول دون هروب السجناء أو تمرّدهم لأن السجن من دون سجناء لا يدرّ شيئاً على السجّان. لا يمكن تخيّل التخلّص من السجن من دون مواجهة مع الحرّاس بطريقة أو بأخرى.

لو كان هنالك سجين يقول لزملائه في الزنزانة أنه يمكن لهم إقناع الحرّاس بفتح أبواب السجن وإطلاق السجناء وهدم جدران السجن بأكمله عبر بعض الفيديوهات وبوستات الفايسبوك، وأنه عليهم ألا يواجهوا الحرّاس وألا يحفروا الأنفاق وألا ينظموا أنفسهم أو يخططوا تمرّدهم، لكان زملائه اتهموه أنه مجنون أو عميل للحرّاس. فهل زايتجايست عميلة للحرّاس؟ نحن لا نعتقد ذلك، لأن الحركة العميلة للحرّاس كانت لتكون حركة تغييرية في المطاف الأوّل، وزايتجايست ليست حركة تغييرية، بل حركة إيمانيّة، وهذا ما سنتحدّث عنه تالياً.

*

زايتجايست: دين التقدّم – النسخة 2.0

دين التقدّم كما سبق وتحدّثنا عنه سابقاً في كتاب بنفس العنوان، هو الفلسفة المهيمنة حالياً على الاقتصاد والسياسة والثقافة والتي تعتبر أن مصير البشرية وهدفها الأسمى هو الاستمرار بالتقدّم المادّي إلى ما لانهاية، ولا يمكنها تخيّل أي بديل أو طرح لا يتمحور بطريقة أو بأخرى حول التقدّم.

زايتجايست بطرحها القائم على التكنولوجيا والمنهج العلمي والعالم التكنولوجي المتطوّر الخالي من الحرب والجريمة والفقر، هي في جوهرها نسخة أخرى عن دين التقدّم، إذ إن التقدّم المادي كهدف ومصير لا يتم التشكيك به للحظة في أدبيات الحركة، بل الخلاف هو على شكل هذا التقدّم.

الحركة ترى أن الرأسمالية تفشل في تحقيق تقدّم البشرية المادّي وتقترح بديلاً تعتبره أكثر فعاليّة من الرأسمالية في تحقيق هذا الهدف المقدّس. مسائل مثل الحدود البيئية والسكّانية على الموارد التي تقف في وجه التقدّم اللانهائي هي غير موجودة في طرح الحركة ولو كانت تصرّ على رمي كلمة “الاستدامة” بين كلّ بضعة أسطر.

الحركة في الواقع تذهب خطوة إضافية في اعتناق دين التقدّم حيث تتبنّى كافة عناصر الحركة الإيمانية الغيبيّة: الحركة تحلم بجنّة مثالية آتية في المستقبل لا محالة، فقط إن قام عدد كافٍ من الناس باعتناق الإيمان الجديد (اقتصاد الموارد وأيدولوجية الحركة)، المخلّص هو التكنولوجيا والحاسوب الخارق الذي سينظّم العالم بطريقة أكثر عدلاً وجمالاً من الإله الإبراهيمي نفسه، والأيدولوجية هي المنهج العلمي الذي لا يحتمل الخطأ والصواب وهو موحى إلى الرسول جاك فريسكو وتلميذه النجيب جوزف بيتر.

هنالك تماثل مثير للقلق بين إيمان الحركة بتسريع يوم القيامة (إقامة المدينة الحاسوبية الفاضلة) عبر اعتناق عدد كافٍ من الناس لأيدولوجيتها، وإيمان كافة الأديان الإبراهيمية بأن اعتناق (أو تخلّي) عدد كافٍ من الناس عن أيدولوجيتها كفيل بالقيام بالأمر نفسه.

غياب خطط العمل المنظّمة والوسائل السياسية والتنظيمية ليس غريباً عندما نفهم أن الحركة تقوم على نفس المبادىء الدينية التي يقوم عليها كل دين غيبي. بالنسبة لها، العالم سيكون مكاناً أفضل بطريقة أوتوماتيكية من دون الحاجة لثورات وانتخابات ومواجهات إن أصبح جميع الوثنيين الملحدين مؤمنين زايتجيستيين.

سلوك الحركة يظهر تناظراً كبيراً مع سلوك المؤمنين الأصوليين. كل حوار يدخل فيه أعضاء الحركة هو حوار تبشيري باتجاه واحد يريد أن يفرض أيدولوجية زايتجايست على الكفّار الجاهلين بشتى الوسائل، ونقول ذلك بعد تجارب شخصية وحوارية مع أعضاء الحركة قمنا بها منذ العام 2008، مع أعضاء غربيين وعرب على السواء.

حين لا يقتنع المحاور بأيدولوجية زايتجايست أو ينتقدها، إجابة الأعضاء له هي إما اتهامه بالجهل أو بالحقد. الخلل بالنسبة لأعضاء زايتجايست لا يمكن أن يكون أبداً في طرحهم ومقاربتهم بل هو دائماً في الطرف المقابل، وذلك لأن التزامهم بزايتجايست هو ببساطة قائم على الإيمان الغيبي لا على التقييم العقلاني والمنهجي المستمرّ للطرح.

*

نموذج لمدينة عائمة من جاك فريسكو، تصفها حركة زايتجايست بـ"إيكولوجيّة".

نموذج لمدينة عائمة من جاك فريسكو، تصفها حركة زايتجايست بـ”إيكولوجيّة”.

مشكلة الرهان على التكنولوجيا 

لقد تحدّثنا في السابق أيضاً عن مشكلة الإيمان بالتكنولوجيا كأساس للحلول السياسيّة والاقتصادية، ولقد استعملنا حركة زايتجايست كمثال وقتها. وهنا سنتضيء على نقطة إضافية حول عدم قدرة التكنولوجيا على تحرير الإنسان.

ما تفشل حركة زايتجايست في فهمه أن التكنولوجيا ليست أداة قائمة بحد ذاتها، بل هي أداة تنبثق من، وتعكس البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي تتواجد فيه.

في مجتمع متساوي وغير هرمي، التكنولوجيا هي شبكة صيد أو رمح يتعلّم كل شخص راشد في القبيلة أن يصنعها بيداه وتخوّله تأمين قوته من دون العودة إلى أي سلطة اقتصادية أو سياسية أخرى.

في مجتمع يقوم على مركزيّة زراعية هرمية، التكنولوجيا هي محراث وإهراءات حبوب وعربات يجرّها الخيل تستوجب تقسيم عمل وسلطات سياسية واقتصادية وجيوش من العبيد يعملون في الحقول لتأمين قوت الطبقات العليا.

في مجتمع يقوم على مركزيّة صناعية معلوماتية، التكنولوجيا هي طائرات وحواسيب وبرامج معلوماتية تستوجب شبكات هرميّة تمتّد على كافة أطراف الكوكب وتجعل من المستحيل على معظم سكّان الكوكب أن يأمنّوا قوتهم بأنفسهم من دون الاعتماد على هرميّة سياسية-اقتصاديّة معقّدة.

انتاج لابتوب بسعر منخفض مثلاً ليس ممكناً من دون بنية هرمية قاتلة تتألف من التالي:

– حكومات تستطيع الدخول إلى أية أرض وتعدين ما تريده منها من معادن وموارد تحتاجها لصناعة الحواسيب، بغضّ النظر عن الضرر الإيكولوجي وحاجات السكان الأصليين وظروف عمل عمّال المناجم.

– مصانع تجميع وتركيب في المناطق الفقيرة وفي أحزمة البؤس حول المدن تجبر الناس على العمل في ظروف أشبه بالعبودية في أجور بالكاد تكفي قوتهم اليومي (مصانع آبل في الصين نموذجاً)، وبنية سياسية واقتصادية تخلق عدداً كبيراً من الفقراء بشكل مستمرّ لرفد معامل العبودية بعدد كافٍ من العمّال.

– بنية ضخمة من المؤسسات الدعائية تقنع المستهلكين من الطبقة الوسطى بضرورة شراء حواسيب محمولة جديدة، لكي تكون العمليّة الاقتصادية مربحة.

من دون هذه البنية الهرمية القمعيّة التي تتيح لمجموعة مغلقة أن تعتدي على الأرض وعلى الفقراء من دون محاسبة أو اعتراض، لكان انتاج حاسوب محمول أمر مستحيل أو مرتفع التكلفة للغاية، كان يمكن ليكون سعره في السوق عشرات آلاف الدولارات. معظم المنتجات الصناعية حولنا، من الحاسوب إلى الثياب التي نرتديها، يتم انتاجها بنفس الطريقة ولم تكن لتكن موجودة من دون منظومة غير عادلة قائمة على الاستغلال.

التكنولوجيا الصناعية والمعلوماتية المتطوّرة ليست ممكنة من دون الرأسمالية الصناعيّة، من شبه المستحيل تحقيق نفس نسبة التقدم التكنولوجي والرخاء الموجودة حالياً من دون بنية اقتصادية-اجتماعية عالمية غير متوازنة كما هو موجود حالياً.

الخطأ الثاني هو عدم إدراك زايتجايست أن الحضارة الصناعية والمعلوماتيّة هي بأكملها غير ممكنة من دون مصدر رخيص وهائل للطاقة هو النفط. واقع الانحدار الطاقوي الذي نعيش في ظلّه يعني أن المستقبل سيكون أكثر شبهاً بالماضي، لا بالمستقبل الذي نتخيّله في أفلام الخيال العلمي. وهنا زايتجايست تقع في الخطأ القاتل بالافتراض أنه يمكن إنشاء حضارة تكنولوجية متطوّرة من دون نفط – وهذا الأمر مستحيل كما يعلم كل من درس أزمة الطاقة المعاصرة.

الخطأ الثالث الذي تقع فيه الحركة هو إيمانها الضمني بالاتجاه الأحادي الخيّر للتكنولوجيا – فكل اختراع جديد يتم الاحتفاء به على صفحاتها كأنه مقدّمات للجنّة المنتظرة.

من تفاعل مع الحركة فترة كافية يستطيع أن يلاحظ بوضوح افتتان الاعضاء بتكنولوجيا الطابعات الثلاثيّة الأبعاد، التي يفترضون أنه من شأنها تغيير النظام الاقتصادي وإعطاء كل شخص القدرة على أن يتحوّل إلى منتج بدل أن يكون مستهلك. فلنعالج هذا المثال قليلاً لنرى كيف تفشل الحركة بمعالجة التكنولوجيا بشكل منهجّي.

المشكلة الأولى في مسألة الطابعات الثلاثيّة الأبعاد هي أنها غير قادرة على انتاج معظم الأمور التي يعد بها متحمّسوها، فهي قادرة حتى الآن على انتاج نماذج بلاستيكية أو أمور محدودة جداً. لكن فلنتخطّى هذه المسألة قليلاً ونسلّم جدلاً أن التكنولوجيا تخطّت هذه المسألة. المشكلة التالية التي نواجهها هي أن الطابعة الثلاثية كما كل آلة انتاج، تحتاج إلى مواد أوّلية معيّنة لإنتاج السلع. والمواد الأوليّة هذه هي مواد صناعية دقيقة مثل اللدائن الحرارية، السبائك المعدنية أو سبائك التيتانيوم، الألومينيوم أو الحديد، لدائن بلاستيكية أو معدنية، بودرة معدنية أو سيراميكيّة، رقائق معدنيّة، رقائق بوليمر (مكوثر)…ألخ.

هذه المواد تحتاج لعمليّة تصنيعيّة طويلة ودقيقة تستوجب نفس الهرميّة الانتاجيّة القمعيّة التي ذكرناها سابقاً من منجم المعادن مروراً بالتصنيع وصولاً للمستهلك، وتطرح بالتالي نفس المشاكل التي تحدّثنا عنها آنفاً.

قيام الملايين من المستهلكين بشراء الآلات الطابعة الثلاثية الأبعاد لصناعة منتجاتهم يعني بروز طبقة جديدة من مالكي وسائل الانتاج الذين يحكمون مفاصل السيستيم – ولا نقصد هنا مالكي الطابعات الثلاثية الأبعاد، بل مالكي مناجم ومصانع اللدائن الحرارية والسبائك والرقائق المعدنية التي تمكّن الطابعات الثلاثية الأبعاد من العمل. الحصول على هذه المواد الأولية بكميات صناعية كبيرة يستوجب إبقاء نفس البنية القمعية القائمة الآن.

إلى ذلك، حتى ولو افترضنا أن الطابعات الثلاثية الأبعاد تحوّلت إلى أداة سحريّة تمكّننا من صناعة أي شيء نريده، هذا يعني أن الجماعات الدينية والسياسية والإثنية المتطرّفة في كافة أنحاء العالم ستستعملها لطباعة الأموال وصناعة السلاح والمنازل والأدوات التكنولوجية المتطوّرة لتخوض حربها المنتظرة على الآخرين. أين يصبح العالم حينها؟ كيف تبقى التكنولوجيا في هذه الحالة مرادف للخلاص؟

هذه المعضلات كلّها غائبة عن الحركة في تعاملها مع أمر بسيط كالطابعة الثلاثية، فكيف الأمر بكل التكنولوجيا؟

الرهان على التكنولوجيا هو انبهار طفولي بالألعاب الجديدة ويعكس قصوراً كبيراً في فهم البنى السياسية والاقتصادية للسيستيم المهيمن.

كل الابتكارات التكنولوجية التي قيل عنها في الماضي أنها ستحرّر الإنسان من عبودية العمل والجهل لم تقم بدورها المنشود.

يمكن لرجل واحد أن يزرع آلاف الهكتارات الزراعية بيوم واحد بعد أن كان 80 % من المجتمع يعمل في الزراعة لتأمين طعامه في العصور السابقة، لكن هذا التطوّر لم يحرّر أحد من ضرورة العمل الشاق كلّ يوم لتأمين قوته لأن السيستيم الحاكم اخترع أدوات ووسائل جديدة لإبقائنا في العبوديّة. هذا الأمر ينطبق على كل التكنولوجيات الأخرى. مشكلة زايتجايست أنها ترى السجن لكنها لا تفهمه.

*

حركة من دون مخالب = استمرار الأمر الواقع

هنالك مشاكل كثيرة أخرى في طرح زايتجايست لا يوجد ما يكفي من المساحة لطرحها من دون الاسترسال في مواضيع جانبيّة غير ضرورية. من هذه المشاكل مثلاً أن زايتجايست تعتقد أن الندرة تعود للهندسة المالية من دون أن تفهم أن الندرة هي نتيجية طبيعية للعيش في عالم محدود الموارد.

مشكلة أخرى هي أن زايتجايست لا تشير أبداً إلى مشكلة النموّ السكّاني بل تعتبر أنه يمكن تحقيق الوفرة للجميع من دون الإشارة إلى القدرة البيئية للأرض على الاستيعاب. هي تقترح أيضاً إنشاء مدن جديدة تقوم على تكنولوجيا متطوّرة ومزارع عاموديّة في أبراج عالية وأنظمة نقل متطوّرة ومصانع تديرها الروبوتات وما شابه، بشكل يوحي بقوّة أنها غير جدّية في اهتمامها البيئي – وإلا كانت لتعلم أن إقامة مدن جديدة متطوّرة بالشكل الذي تصفه هو أسوأ اقتراح بيئي في التاريخ.

أسوأ المشاكل التي تمثّلها الحركة هي أن النتيجة الوحيدة من وجودها هو تحييد عدد كبير من الشبّان الراغبين بالتغيير وهدر جهودهم في عمل لا نتيجة له، وتدجين أسلوب المواجهة مع السلطات إلى أقصى حدّ ممكن.

قيام الحركة بطرح بديل غير واقعي ورفضها مواجهة سلطات الأمر الواقع يجعل منها أكبر خدمة للمنظومة التي تحاربها. ما هو أفضل للسيستيم من أن تنشأ حركة تجمع حولها آلاف الشبّان المحبطين من الواقع المتردّي، لتقول لهم أنه يجب عليهم أن يجلسوا جانباً من دون مواجهة السلطة وأن ينتظروا اليوم الموعود وهم جالسون على كنباتهم؟

حركة زايتجايست العالمية قد تكون مدخلاً جيداً بالنسبة لعدد كبير من الناس لإدراك وجود خلل كبير في العالم الذي نعيش فيه، لكن تأثيرها يقف هنا، ولا بدّ على كلّ من هو جدّي في محاولة بناء عالم بديل أن يتخرّج منها إلى حركات تقدّم خطط عمل فعليّة لا كلاميّة.

بناء الوعي، إقامة البديل على أرض الواقع، ومواجهة مؤسسات السيستيم هي استراتيجية ثلاثيّة لا تنفصل عن بعضها بعضاً إن كنّا نسعى فعلاً لعالم مختلف.

نحن نوافق زايتجايست أننا نحتاج لثورة في الوعي البشري، ولكننا أيضاً نحتاج لقبضات شجاعة وقلوب خفّاقة، نحتاج لمؤمنين بالتغيير لا يتجنّبون وضع أياديهم في التراب لبناء العالم البديل بأنفسهم، ونحتاج لمحاربين لا يخافون وضع أصابعهم على الزناد للدفاع عن المهمّشين ومواجهة المؤسسات والقوى التي تسحق الكوكب.

هنالك الكثير من الأغاني بانتظارنا لكي نعزفها، والكثير من الحقول بانتظارنا لكي نحرثها، والكثير من المؤسسات بانتظارنا لكي نحرقها، ما هي خططكم الليلة؟

10 comments

  1. ayhkas · ديسمبر 15, 2013

    مقال تشريحي واقعي وموضوعي ورائع، سلمت يداك يا طوني
    رغم طول التدوينة وكلما قلت هذا الكلام رائع سوف ينتهي المقال الان ووصلت الفكرة، أجد المزيد من التحليل فأتمنى المزيد منه.
    شكراً.

    • Tony Saghbiny · ديسمبر 16, 2013

      شكراً لك ، من الجميل أن اكتشف ان المقال كان مفيداً لك
      تحياتي

  2. غير معروف · ديسمبر 16, 2013

    هناك بعض المنطق في المقال
    لكن السخرية من بعض النقرات هذة كبيرة شوية
    بعض النقرات تصمم و تبرمج و تدرس و تحلل

  3. engazz · ديسمبر 17, 2013

    موضوع رائع ومميز

  4. Sameh · جانفي 6, 2014

    اريد نسخة للمقال بالإنجليزية إذا سمحت

    • Tony Saghbiny · جانفي 7, 2014

      للأسف لم يكن لدي وقت لترجمته بعد إلى الانكليزية، ما ما أن أقوم بذلك سأرسله لك صديقي : )
      تحياتي

  5. Reve99 · جانفي 6, 2014

    مقال اكتر من رائع ..
    بس اعتقد هما هيردوا على موضوع ازمة الطاقه …بوجود الطاقه النظيفه اللي الدول مبتلجألهاش عشان في ربح

    و اعتقد كان ممكن يزيد على المقال نظرة الحركه للنظام المالي على انه نظام غير قابل لﻹصلاح بالمره مع ان خلال انتقادهم ليه ضربوا امثله على ناس قدرة تصلحه و لو لفتره وجيزه

    شكرا على المقال الرائع

  6. غير معروف · جانفي 12, 2014

    أعتقد أنه في هذا النص التحليلي تم النظر إلى المنهج العلمي في التفكير بطريقة مطلقة قليلا جعلته يخرج من سياقه “المتجدد”، إن كانت زايتجست تأمن بهذا المنهج في التفكير فسيكون مشروعها قابل للتطور عكس ما قرأنا، فالقوانين المرتكزة عن العلم لن تكون قوانين ثابتة، بشرط تطور المستوى العلمي المرتبطة به، أي سوف تكون الحل الأمثل الذي وصل إليه الإنسان في إنتظار ما يخالف ذلك،
    أيضا، عند الإطلاع عن أدبيات الحركة و مشروع فينوس نرى أن البعد الإنساني متجذر في مشاريعه عندما نتكلم عن محاربة الندرة و التخلص من أساليب التلقين في التعليم و تخصيص تلك المساحات المجانية للمسيقى لجميع البشر إلخ.. لا أرى أنه من الصواب أن نمثل هذا المشروع وكأنه برمجة جديدة للعقول،.أيضا أدبيات الحركة تثبت لنا أن مكننة العمل سوف ترد للإنسان حصة من حقوقه الطبيعية أي “إلغاء بيع الجهد”..
    و عندما نضع المسألة في مقارنة مع جميع المشاريع الإصلاحية الاخرى المبنية عن الأراء الشخصية، سوف نجد أن العلم لن يكون سوى الحل الأكثر عدلا و إنسانية فهو سيضمن أساسيات الحياة لجميع البشر دون أي شكل من أشكال التنظم.

  7. التنبيهات: العبودية أو الموت: العمل في القرن الواحد والعشرين | نينار

أضف تعليق